30‏/11‏/2013

أرشيفي الفني .. «أحمد عدوية».. حين صار للشارع صوت مسموع

والد مشغول بتجارة المواشي في المنيا عروس الصعيد في أربعينيات القرن الماضي، يحمل هم قبيلته الصغيرة المكونة من زوجته وأطفاله الـ14، ولا يجد متعته سوى في الجلوس في أحد مقاهي المدينة لسماع أحد شعراء الربابة منشدا بعض السير الذاتية الأسطورية لأبو زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد، وغيرهم من أساطير زمن مضى، ومع مضي الوقت وتحديدا في منتصف الخمسينيات كان يعجز عن منع طفله الـ13 أحمد من اصطحابه للمقهى لسماع الأغاني، فقط كان يدهشه تعلقه الشديد بما يسمع وحفظه بسهولة وترديده بعد ذلك بصوت جميل.

وفي شوارع المنيا وفي بيوت الاصدقاء مرت السنون بالصبي وصار شابا يافعا، يغني مجاملا في الأفراح مرددا أغاني محمد العزبي وشريفة فاضل ومحمد رشدي الذي اعتبره أبا روحياً له وكذلك العديد من نجوم الأغنية الشعبية، وحين أتم الـ24 كان قد اتخذ قراره بشد الرحال إلى قاهرة المعز، وشارع محمد علي تحديدا لاحتراف الغناء بناء على نصيحة الأصدقاء وذلك العشق والشغف غير المحدود بالغناء.

وفي مقهى «الآلاتية» في شارع محمد علي بدأ الشاب أحمد مرسي، الشهير بأحمد عدوية رحلته مع الموسيقى عازفا للناي والرق في بعض الفرق الموسيقية متحينا الفرصة للغناء هنا أو هناك في فرح شعبي أو حفلة خاصة، حتى لبى الدعوة للغناء في عيد زواج الفنانة شريفة فاضل، وسط كوكبة من نجوم الغناء.

كان المطرب الشاب غير معروف لدى أغلب الحضور، وكان حضوره لسد الفراغات الزمنية بين كبار المطربين، لكنه عندما غنى جذب أنظار الجميع، ليطلب منه صاحب كازينو «الأريزونا» العمل معه، ويوقع في اليوم التالي عقدا باحتراف الغناء رسميا.

وفي شارع الهرم حيث تذوب أغلب المواهب وتضيع بين «أكل العيش» و«عدم انتباه السميعة» كان أحمد عدوية مختلفا، وبحكم انتمائه للشارع الذي ضم صوته في بدايات مشواره الفني كان يرى أنه من الطبيعي أن يغني لغة هذا الشارع، بعيدا عن لغة أغنية هذا العصر المتحفظة والمحفوظة داخل قوالب متجمدة.

وفي عام 1973، حين قدم أحمد عدوية أغنية «السح الدح إمبو» كاسرا «تابو» الشعر المنقي والمفلتر بعيدا عن لغة الشارع والتي حققت نجاحا كبيرا للغاية، بدأ المطرب الشعبي أولى خطوات النجاح، ليتبعها بعد ذلك بمجموعة من الأغاني مثل «بنج بنج» و«سيب وأنا أسيب» و«زحمة يادنيا زحمة» ويصدر البومين لشركة «صوت الحب».

وكعادة الوسط الثقافي والفني حين يلقى من يغرد خارج السرب، خرج العشرات من الصحفيين والفنانين مهاجمين المطرب الشاب، معتبرينه مثالا للانحطاط والابتذال، لدرجة أن المخرج الكبير محمد خان اتخذ من أحمد عدوية رمزا للابتذال في فيلمه «خرج ولم يعد» حين كان بطله يحيى الفخراني يصرخ في الريف قائلا :«جايلك ياعدوية».

إلا أن هذا الجدل الدائر حول مدرسة المطرب الشعبي الشاب جعل العديد من منتجي السينما يقدمه في عدد لا بأس به من الأفلام التجارية مثل «حسن بيه الغلبان» و«العسكري شبراوي» و«رجل في سجن النساء» و«البنات عايزة إيه» و«مشاغبون في الجيش» و«أحلام البنات» و«خدعتني امرأة» و«السلخانة» و«حارة العيش الحاف» و«خمسة في الجحيم».

كما غنى رغما عن الجميع في التليفزيون المصري عام 78 بعدما أعلن الرئيس الراحل أنور السادات عن حبه لصوت «عدوية» من خلال إحيائه عيد ميلاد شقيقته الكاتبة سكينة السادات فى منزلها فى حدائق القبة ، حين طلب منه السادات غناء أغنية «سلامتها أم حسن» والتي كان يعشقها.

وفي عام 1980 صار أحمد عدوية مطربا معتمدا في الإذاعة على الرغم من رفض الوسط الفني والثقافي له رغم حماس بليغ حمدي وتقديمه صوت «عدوية» من خلال أغني مثل «بنج بنج» و«آلا أونا»، وشهادة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب له بأنه أحد أصح الأصوات العربية، بينما احتفى به العندليب الاسمر عبدالحليم حافظ بغناء أغنيته «السح الدح امبو» بينما غنا هو أغنية «خسارة» لحليم، وقال عنه الأديب الكبير نجيب محفوظ «إنه صوت قوي مليئ بالشجن» وكان يعتبر أغنيته «سيب وأنا سيب» التي كتبها مأمون الشناوي ولحنها سيد مكاوي أغنية «سياسية تدعو للسلام».

ومع نهاية عقد الثمانينات وبعدما صار أحمد عدوية ملكا متوجا للأغنية الشعبية في مصر، ومع بداية التسعينيات يتعرض المطرب الشعبي لحادث مثير للجدل، وما بين شائعات ترددت من آن لأخر عن منافسة نسائية ما بينه وبين أمير عربي اختفى صوت الشارع وخفت بأمر المرض والعجز.

لم يقطع هذا الاختفاء سوى محاولة وحيدة بإصدار ألبوم بلغة «الفرانكو أراب» وكأن صاحب الصوت خجل من أن يقدم لغته بهذا الصوت الواهن.

ومع مطلع الألفية الجديدة، وبعدما صار المثقفون والفنانون على وعي تام  بقيمة ما قدمه أحمد عدوية خلال مشواره الغنائي، عاد من جديد  ولكن مرتين، الأولى على يد ولده محمد الذي احترف الغناء، والمرة الثانية حين غنى من جديد مع رامي عياش ثم محمد عدوية وأخيرا فرقة «وسط البلد».

عاد الصوت الشارع هذه المرة مليئا بالخبرة، مثقلا بالتجربة المختلفة، مفعما بالتقدير لهذا الزمن الذي أدرك أخيرا قيمة أحمد عدوية.

ليست هناك تعليقات: