21‏/06‏/2013

مقطع من "نوستالجيا" في ذكرى السندريلا


ابتسم رغماً عنه عندما رأى صورتها معلقة على الحائط، صورة ورقية قديمة ترك عليها الزمان أثاره، صبغها باللون الاصفر وغابت ألوانها اعتراضاً على طغيانه الكريه، لكن كل هذا عجز عن منع تلك الملامح الجميلة لصاحبتها...أدرك الاسم منذ وقعت عيناه على الصورة.
ردده محتفظاً بنفس الابتسامة :
- سعاد حسني..حب المراهقة وما تلاها
اجتاحته ذكريات عديدة، درك للتو أنها لما تكن مجرد ممثلة فتنته وشغلت مراهقته بجمالها العبقري، بل صديقة خاصة في صداقة نادرة من نوعها، صداقة من طرف واحد أقتصر دور الطرف الثاني على الفتنة والبهجة وتلك الرسائل التي لم تنقطع يوماً عبر شاشة التليفزيون، عبر افلامها.
حفظ أفلامها منذ نبت شاربه، تابعها ومارس عادته السرية للمرة الأولى على مشهد من فيلم "خللي بالك من زوزو"، وظل يعجز عن كتم ضحكته كلما رأى المشهد بعد ذلك، بدت فاتنة في بدلة الرقص، عجز عن كبح جماح رغبته الوليدة، فار كالتنور، فبقيت ذكرى لا تنسى، لم يعتبرها رسالة ولم تكن، فقط كان بداية الارتباط.
أدرك بعدها أن حبه ليس لجسدها الفائر ودلالها العفوي، بل لروحها التي تملأ الشاشة فتفيض على المشاهدين، وعندها بدأت الرسائل التي لم تنقطع ابداً.
حين كان يجري بحثه الأخير لكتابة روايته عن العسكر، وانشغاله بفكرة كتابة التاريخ الشخصي لأحد كبار القوات المسلحة ودوره السري في حرب افغانستان، وقعت بين يديه نسخة لفيلمها النادر "أفغانستان لماذا؟"، كتب بعدها السيرة دون تردد
حتى في مراهقته يوم اختلف مع أحد اصدقائه على حب فتاة ما، ومابين غضب الرجولة المصطنع، واستخسار الفتاة في الآخر حتى لو كان صديقه، شاهد فيلم "الثلاثة يحبونها" على القناة الثانية عقب صلاة الجمعة ظهر أحد الأيام الشتوية في الثمانينيات، قبل أن يراه بعدها بيومين على جهاز فيديو ابن عمه في سهرة عائلية، فترك الفتاة منفذا رغبة سعاد.
وعندما احتار عند التقديم للكلية الحربية، وشاهد "فيلم للرجال فقط" وأدرك أنه في سبيل الشهادة التي يحلم بها عليه أن يتحمل ما لا يطيق من أجل حلمه، وانتهت الحيرة، حتى عندما غضب ولم يطق الحياة العسكرية، كانت تأتيه في فيلم "أميرة حب أنا" لتغني "بمبي" فتهبه الطاقة والبهجة اللازمة لاستكمال الطريق.
تذكر ايضاً تلك المرة التي كاد يقدم فيها على تنازل من أجل ميزة عسكرية، وعلى الغداء في "ميس" الضباط وقبل أن يبلغ قائده بالموافقة كانت حاضرة لفيلم "القاهرة 30".
وحين قرر أن يترك الحياة العسكرية، بحثاً عن نفسه، كانت حاضرة بفيلم "المشبوه" شاهده مصادفة ثلاث مرات في أسبوع واحد، وقرر البدء من جديد.
عشرات الرسائل لم تتوقف سعاد حسني عن إرسالها له واستقبلها كلها ولم يخب ظنه.
علق صورتها تلك منذ بلغ الثامنة عشر، وعجزت غيرة زوجته عن منعه من تعليق أخرى في غرفة نومهما في منزله الجديد الذي لا يعرف مكانه الآن، لكنه يعرف أنه يحوي صورة سعاد حسني.
غادر الغرفة مسرعاً ليفتح التليفزيون، ويدوس أزرار "الريموت كونترول" بحثاً عن فيلم تعرضه إحدى الفضائيات لها، وقبل أن ييأس بعد مرور نصف ساعة كان على موعد مع فيلم "الحب في الزنزانة" في نصفه الثاني..لم تصله الرسالة تلك المرة...لكنه شاهده حتى غلبه النوم :
وخلال نومه لم يشاهد في أحلامه غير سعاد حسني حاملة منديلها الأخضر خلف القضبان تشير إلى حبيبها حتى يتعرفها.

06‏/06‏/2013

أرشيفي السينمائي: رضوان الكاشف.. شاعر السينما الثائر


لم يكن عامل «الأفيش» الذي عمل على رفع أفيش فيلم «عرق البلح» منتصف ليلة الثلاثاء 22 يونيو 1999، استعدادا لعرضه الأول في اليوم التالي في سينما "أوديون"، يعلم أنه بعد أسبوع واحد سيزيله من على السينما.

كذلك كان حضور صاحبه «رضوان الكاشف» لتلك الدنيا خاطفا، ابن موت كما يحلو للمصريين دائما أن يصفوا هؤلاء العباقرة الذين يخطفهم الموت مبكرا.

كان الطالب السوهاجي الصعيدي الذي ولد في حي السيدة زينب الشعبي عاشقا للشعر، حيث قدم عدة أبحاثا ودراسات في الفلسفة الصوفية عند «ابن عربي» و«ابن الفارض» و«الفارابي»، ثم تخرج ليصدر كتابين عن «عبدالله النديم» كرمز للثورة، وتجديد الفكر عند «زكي نجيب محمود».

عاشق للشعر الصوفي يكتب عن الثورة وتجديد الفكر، هذا هو تماما صانع الأفلام رضوان الكاشف، الذي كان فيلمه الأول «ليه يا بنفسج» أغنية شعرية رقيقة، ثم تبعه بقصيدته الملحمية «عرق البلح» ثائرا على شكل السينما ومجددا في طريقة الفكر فيها.

قدم «الكاشف» قرية مصرية تمردت على الواقع وانفصلت عن الزمان فاحتفظت بشكلها البكر، ومن خلال الهجرة التي يضطر إليها الرجال في هذا العصر، ويمزج «الكاشف» الزمنين، ثم يضيف إليهما زمنا آخر بأسطورة النخلة العالية التي تطرح بلحا أبيض.

يقدم «الكاشف» فيلمه دون زمن محدد، ويستعرض خلاله في صورة شديدة الثراء والعمق العادات الحقيقية للصعيد المصري، فيقدم المرأة ك«حارسة الثقافة وعنصر مقاومة التغير الذي يتجه إليه المجتمع»، لكنه لا يقدم أبطاله كملائكة بل يحملون خطاياهم مثل البشر العاديين.



*****

لم ينجح المعتقل عام 81 في أن يترك أثره على روح حالم مثل رضوان الكاشف، فقط خرج لينضم إلى معهد السينما ليتخرج متصدراً دفعته، وتمنحه وزارة الثقافة جائزة العمل الأول عام 1988عن فيلم «الجنوبية» القصير مشروع تخرجه، الذي يدور حول فتاة حرة ترفض تقاليد المجتمع الذي أجبرها على الزواج ممن تكره ولكنها تمارس الحب المحرم مع مَن تحب، فيكون مصيرها القتل.

ومن أجل أن يقدم حلمه «عرق البلح» المكتوب قبل «ليه يا بنفسج»، اضطر إلى تقديم حلمه الصغير عبر بوابة الواقعية السحرية للفيلم المأخوذ عن رواية «باهيا» للكاتب البرازيلي  «جورج آمادو» .

استعرض الفنان قاع المجتمع المصري بصدق وواقعية ليتم اعتباره أحد رواد الجيل الثاني في السينما الواقعية المصرية، لتنهال عليه الجوائز، ويبقى فيلم «عرق البلح» مجرد سيناريو يصيب من يقرأه بالانبهار مع ملحوظة واحدة متكررة مهما تغير الشخص


وبإصرار الصعيدي الثائر بداخله يخرج «عرق البلح» للنور دون أي تغيير في السيناريو، مع ميزانية محدودة، ويناقش الكاشف قضية الهجرة وعادات المجتمع وآفاته وكيف يكون الحل دائما  «حكاية ولازم تخلص».

وهو نفسه ما فعله المنتجون مع الفيلم الذي استمر عرضه في القاهرة لمدة اسبوع وفي باريس لمدة 6 أشهر.

كشف الثائر عورات المجتمع وشركات الإنتاج، فكان لابد أن «تخلص» الحكاية.

******

قد يكون رضوان الكاشف أقسم خلف الكاميرا عند أول فيلم صوّره في معهد السينما أنه لن يعمل إلا ما يحب، وهو ما فعله طيلة حياته القصيرة، والتي بدى فيها كصرخة في عالم السينما، ومحاولة لنفخ الروح في شكل جديد للصورة السينمائية المصرية من خلال مفردات شديدة المحلية.

وفي فيلمه الأخير «الساحر» كان وكأنه يعرف أنه يودع الجمهور، فأراد أن يكمل رسالته الفنية من خلال نظريته الأهم عن صناعة البهجة من قلب الحزن، ربما خرج مرتبكاً بعض الشيء ولا يشبه قصائد الكاشف السينمائية ولكنه أودع فيه أنفاسه الأخيرة.

رحل رضوان الكاشف في الخامس من يونيو 2002، بعدما قدم 3 أفلام طويلة وفيلما قصيرا و3 افلام تسجيلية في 17 عاما، قدم فيها رؤية إخراجية جديدة منذ أول أفلامه «الجنوبية» للقضاء على الانفصال بين المثقف وواقعه الحقيقي، من خلال حركة الكاميرا «المتأملة» التي تهتم اهتماما مدهشا بعرض التفاصيل ليدفع المشاهد إلى التخلي عن مجرد الفرجة والمشاركة بروحه فيما يشاهد بدرجات مختلفة من خلال اقتراب الكاميرا أو ابتعادها.

ومن خلال فيلميه «الجنوبية» و«عرق البلح» كانت عودة المثقف إلى مسقط رأسه لكي يبدأ حل الأزمة بالجدل والنقاش باعتباره الأقدر عليه.

عليه أن يعود ليفهم ويتعلم ويصبح بعدها ممتلكا لأدوات التغيير المناسبة، بعد أن يتخلص من غروره وتعاليه وإحساسه بأنه الأقدر والأكثر فهما.

وكانت النهاية تشبه نهاية بطله الذي كشف عجز الرجال وقلة حيلتهم، فكان لابد أن يسقطوا عليه عجزهم، ويكبلوه إنتاجيا وتجاريا، وقلب الحالم لا يحتمل، وكما صعد «أحمد مصطفى» بطل «عرق البلح» النخلة البيضاء ولم يعد، غادر رضوان الكاشف هذه الدنيا.

أرشيفي السينمائي: الفلاح في السينما المصرية.. قروي ساذج أو باحث عن هجرة


في بلد بنى حضارته الطويلة عن طريق مهنة الزراعة، تعاملت السينما المصرية بتنميط وسطحية مع «الفلاح» منذ فيلم «زينب» لمحمد كريم سنة 1930، وحتى فيلم «عصافير النيل» للمخرج مجدي أحمد علي سنة 2010.

وظل الفلاح المصري شخصية هامشية في السينما منذ انطلاقها وحتى ثورة 23 يوليو 1952، من خلال بعض الأدوار المساعدة داخل أحد القصور الموجودة في الريف والتي تدور فيها بعض أحداث تلك الأفلام.

ولم تخرج على تلك القاعدة سوى بعض الأفلام القليلة أهمها فيلم «زينب» الذي يستعرض حياة فلاحة بسيطة وقعت في قصة حب وأرغمتها التقاليد على الزواج من رجل آخر، وعلى الرغم أن الفيلم لا يتعرض لحياة الفلاحين بصورة عميقة إلا أنه استعرض بعض العادات الريفية.

إلا أن الفيلم الأهم عن حياة الفلاح في تلك الفترة هو فيلم «ابن النيل» الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1951، والذي يستعرض قصة فلاح تمرد على أوضاعه وهاجر تاركاً القرية وانغمس في حياة العاصمة قبل أن يعود لينقذ زوجته التي تركها بعد أن خرج من السجن.

وتشير التقارير الإحصائية إلى أن عدد الأفلام التي تناولت الفلاح والريف المصري بلغ على أفضل تقدير 2.4% من حجم الإنتاج السينمائي في تلك الفترة، في حين كانت الأفلام التي تناولت حياة الليل تشكل 35% من إجمالي عدد الأفلام.

تغير الحال كثيراً بعد ثورة يوليو، حينما أرادت الدولة التحكم في صناعة السينما وتوجيهها لتحقيق أهداف دعائية تخدمها، لتقدم السينما أفلاماً مثل «الوحش» لصلاح أبو سيف 1954 و«صراع في الوادي» ليوسف شاهين  1954 و«أرضنا الخضراء» لأحمد ضياء الدين 1956 و«أدهم الشرقاوي» لحسام الدين مصطفى 1964 و«الحرام» لبركات 1965 و«الزوجة الثانية» لصلاح أبو سيف 1967 و«البوسطجي» لحسين كمال 1968 و«شيء من الخوف» لحسين كمال 1969 و«الأرض» ليوسف شاهين 1970.

ويبدو واضحاً خلال فترة الخمسينيات والستينيات حرص السينما على توضيح الظلم والقهر الذي تعرض له فلاح ما قبل الثورة من خلال الإقطاع والطبقة الحاكمة.

وتبقى أفلام «شيء من الخوف» و«الأرض» و«الزوجة الثانية» أهم أفلام تلك الفترة، حيث استعان الأول برمزية الأرض والفلاح ليهاجم السلطة في ذلك الوقت الذي عانى فيه من الكبت، بينما استعرض الثاني حياة الفلاحين بكامل تفاصيلها الدقيقة بصورة لم يسبق تقديمها في السينما المصرية من قبل، وكان الثالث الأكثر إنسانية وواقعية ولهذا اعتمدت شخصياته ممثلة للريف المصري حتى وقتنا هذا رغم تغير الأوضاع كثيرا، ولم تعد مكونات المجتمع الريفي هي ذاتها التي صورها صلاح أبو سيف عام 1967.

لكن ما يميز تلك الفترة أن نسبة الأفلام التي تناولت الفلاح المصري وصلت لـ 6.9% ، وهي زيادة ملحوظة عن المرحلة الأولى.

ومع انتصاف السبعينيات واتجاه الدولة إلى الانفتاح الاقتصادي، عاد الفلاح ليحتل مكانه الهامشي في خلفية الصورة، ليكتفي بدور المهاجر الساذج الذي يصل إلى القاهرة لينبهر بما فيها، ويقع في مفارقات مضحكة، مثل فيلمي «المتسول» و«عنتر شايل سيفه» لأحمد السبعاوي سنة 1983، أو من خلال الفلاح الساذج الذي يتم تجنيده من خلال فيلم «البريء» لعاطف الطيب.

وتعود نسبة الأفلام المنتجة في الثلاثين عامًا الأخيرة إلى أقل من معدلات المرحلة الأولى، وتصل تقريبًا إلى 2.3% من حجم الأفلام المنتجة.

وتنكر السينما رغماً عنها ولثقافة صناعها القليلة بالريف المصري بعض العادات الاجتماعية المهمة للفلاحين، مثل الأسرة الممتدة، وهي الأسرة التي تضم ثلاثة أجيال يعيشون في بيت العائلة الكبير، وكذلك رغبة الفلاح الدائمة في ألا يرث أبناؤه مهنته، فيحرض على تعليمهم وإلحاقهم بوظائف أخرى بعيداً عن «عار الفلاحة».

ولكن السينما كانت أكثر صدقاً مع الفلاح المصري فيما يخص التعليم، حيث استعرضت في كل مراحلها اكتفاءه بالكُتّاب، وحلمه بعالمية الأزهر من خلال أفلام مثل «شباب امرأة» لصلاح أبو سيف سنة 1956، لكنها دائما ما كانت قضية هامشية وغير رئيسية في موضوعاتها، لكنها لم تهتم نهائيًا بالموضوعات الحياتية الأخرى مثل الصحة والسكن، لدرجة أن الحكومة المصرية اصدرت قراراً عام 1947 يمنع تصوير منازل الفلاحين، ونصَّ على ذلك صراحةً لتدني مستواها.

حتى على مستوى التدين، اهتم السينمائيون بإبراز الجانب الأسطوري في علاقة الفلاحين بالأديان وتصديقهم بالجان والسحر وخضوعهم التام للشيوخ، وأغفوا الجوانب الأخرى في حياة الفلاح الدينية.

لكن كانت خطيئة السينما الكبرى في تشويه العلاقة بين الرجل والمرأة في الريف، حيث أبرزت السلطوية الكاملة للرجل، على الرغم من أن المرأة في الريف تكاد تكون مسؤولة وحدها عن إدارة الحياة، واقتصر دور الرِّجال في بعض الأسر على مجرد العمل بالحقل وكسب المال ومجالس الرجال، ويبدو هذا واضحًا وجليًا للغاية في صعيد مصر.

وكما أنكر المجتمع فلاحيه أنكرتهم السينما، وكما تتقلص مساحة الأرض الزراعية في مصر تتقلص نسبة الأفلام التي تهتم بصُناع حضارتها في الماضي، وكما تجتاح حوائط الطوب الأحمر خضرة الأرض الزراعية التي تم تجريفها خصيصًا من أجله، ينسحب الفلاح من السينما المصرية معتمدًا على الدراما التي حوّلته إلى «إكليشيه» ثابت لا يتغير ولا يشبه الحقيقة نهائياً.