30‏/11‏/2013

أرشيفي الصحفي .. «التوني».. «كلمة» ابن الفارض و«دعوة» الحلاج

مد القمر أشعته الفضية على دروب وتلال الصحراء برمالها الذهبية، فشعت لوناً مهيباً، يليق بمقر «إقامة» ابن الفارض، سلطان العاشقين، قرب مكة المكرمة.

احتل الصمت كل المساحات الممكنة، انتظاراً لوصول الحلاج فى لقاء أسطورى، خيالى. اجتمع الشيخان، وانتهت الصلاة، وبدأ كل منهم يردد شعر الآخر، فى حب وخشوع، تغير اتجاه الرياح وطبيعتها، وتحول صفيرها إلى نغم على «سلم» اهتزازات جسدى الشيخين من الوجد والطرب، حتى ألقى ابن الفارض أبياته الأخيرة:

قلْبى يُحدّثُنى بأنّكَ مُتلِفي..        روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ



لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إن كُنتُ الذي  لم أقضِ فيهِ أسى ومِثلى مَن يَفي



ما لي سِوى روحي وباذِلُ نفسهِ    في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمُسرفِ



فَلَئنْ رَضيتَ بها فقد أسْعَفْتَني      يا خيبة َ المسعى إذا لمْ تُسعِفِ

صمت الشيخان وسرت كلماتهما فى الآفاق، عابرة البحر الأحمر نحو مصر، لتستقر فى مدينة أسيوط، ليولد بها بعد مئات السنين «سلطان المنشدين» أحمد التونى.. كلمة سلطان العاشقين ابن الفارض ودعوة الحلاج.



■ ■ ■

عشق التونى منذ نعومة أظافره شعراء الربابة، حماة السير الشعبية، وتتبع غناءهم فى صعيد مصر، إلا أنه عندما قرر الغناء، انحاز لسير الأولياء والعارفين بالله، والسالكين فى مدارجهم، الجُنيد والرفاعى والدسوقى والجيلانى، وغيرهم من الدوحة الشريفة.

عشق الكلمة منذ البداية، ولم يدرك فى بداياته وأثناء تنقله بين موالد الصالحين أهمية الموسيقى، غنى مرتجلاً دون لحن.. فأطرب. بعد ذلك، أدرك قيمة الموسيقى، فكون فرقته من ثلاث آلات، الكمان.. بعزفه الواصل لأوتار الروح، والناى.. مدرسة البكاء، وآلة إيقاعية.. تضبط «هارمونى» أُختيها. تعودت فرقته أن يفيض الشيخ بالشعر وتعزف هى وراءه، معتمدة على مسبحته التى يضبط بها الإيقاع، ناقرا على كأس زجاجى.



■ ■ ■

يدرك أن العمر قد تقدم به، يتذكر شبابه حين كان ينشد لـ6 ساعات متتالية فى الموالد، ولكنه الآن على مسرح فى باريس، يستعد للغناء، مؤمنا برسالته التى أفنى عمره من أجلها، وهى إيصال رسالة التصوّف الإسلامى للعالم كله، بوصفه نعمة لكل البشر، وليس حكراً على أتباع محمد.

يعتلى المسرح فى حالة وجد، مستلهما ما حلق عبره شيخاه قبل مئات السنين. يصمت الحضور الذين لم يرهم، يبدأ دون تحضير فى ترديد أشعار كبار أئمة التصوف، أبوالعزايم وابن الفارض والحلاج، متمايلاً مع موسيقى، شكلت مع غنائه لوحة شديدة الرقة والتأثير. تتوحد أجساد وأرواح الجمهور، مع سلم موسيقاه هو، ويصبح المسرح حالة مُندمجة من «الوصل والوجد»، تسمو بهم إلى حقب تصوف، شهدت ألم، وفرح، الحلاج، شهيدا.

ليست هناك تعليقات: