30‏/11‏/2013

أرشيفي الصحفي .. الشيخ رفعت.. «قيثارة السماء» تفتتح الإذاعة المصرية

«رحلت صاحبة الديوان (السيدة زينب) وتركت بعضاً من بركتها حول المسجد الذى دفنت فيه».. هذا ما قاله شيخ كُتّاب مسجد فاضل باشا فى درب الجماميز بحى السيدة زينب عندما سمع ترتيل ذلك الطفل الصغير الذى لم يتعد الخامسة من عمره بوجهه البيضاوى وجبهته العريضة، وتلك العيون التى خبا نورها لكنها أبت إلا أن توحى للناظر إليها بأنها تبادله النظر، وهذا الأنف المستقيم الذى كأنه استمد استقامته من كرامة غالية، وفم صغير تخرج منه آيات الرحمن، وكأن الروح قد قدت من اللوح المحفوظ.

إلا أن هذا الطفل الذى ولد قبل احتلال الإنجليز لمصر بأسابيع قليلة، فقد بصره عندما أتم عامه الثانى، ولم يمهله القدر سوى سنوات قليلة درس فيها علم القراءات وعلم التفسير ثم المقامات الموسيقية على أيدى شيوخ عصره قبل أن يختطف الموت والده مأمور قسم شرطة الخليفة وهو فى التاسعة من عمره، ليضيف اليتم إلى روح الطفل حساسية احتاجتها روحه كى تتكون شخصية قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت، الذى ما لبث أن تولى قراءة القرآن فى المسجد نفسه الذى تعلم فى كتابه، ليذيع صيته وتتسع شهرته ليسكن رويداً رويداً فى قلوب عشاق كتاب الله.

فى 1934 استعدت الأمة المصرية فى زخم الأحداث السياسية الهائلة التى كانت تعصف بالبلاد، لاستقبال بث الإذاعة المصرية، بعد توقف العديد من الإذاعات المحلية، ولم يجد ميكروفون الإذاعة صوتاً يصاحبه فى لقائه الأول بالجمهور سوى كروان الإذاعة- كما أطلق عليه فيما بعد- ليصافح صوته آذان المستمعين بأول سورة الفتح «إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً»، وقد كان لـ«رفعت» طريقة خاصة فى تجويد القرآن، حيث كان يهتم بتجسيد المعانى الظاهرة عبر طبقات صوته المختلفة والمقامات الموسيقية المتعددة ليصل المعنى لكل جوارح المستمع قبل أذنه.

لم يسبق أن اهتم أحد بمخارج الحروف وأعطى كل حرف حقه، كما فعل الشيخ محمد رفعت حرصاً على تمام المعنى وكماله، لهذا أبكى من سمع آيات العذاب، وأشعل حب العابدين إلى لقاء ربهم بآيات الرحمة حيث كان ممتلئاً تصديقاً وإيماناً بما يقرأ.

مازالت معالم شهر رمضان فى مصر ثلاثة.. صلاة التراويح فى المساجد.. انتشار الطعام والضياء فى الشوارع.. أما فى البيوت فصوت الشيخ محمد رفعت الذى رحل منذ 72 عاماً لكن صوته فى رفع الأذان وقراءة القرآن لم يزل مرتبطاً فى أرواح المصريين بالشهر الكريم، ذلك الصوت الذى وهبه الله إياه، وكى يزيد فى اختباره أصابه سرطان الحنجرة فى نهايات عمره، ليوقف المرض الصوت، ويعجز عن إيقاف الروح، ليرفض الشيخ تلقى أى مساعدات عرضها عليه الملوك والأمراء بحجة أن قارئ القرآن لا يهان، لتبقى الكرامة لذلك الرجل الذى رفض صغيراً أن يرتزق بالقرآن، فيرزقه صاحب القرآن، وليرحل عن عالمنا فى نفس يوم ميلاده الموافق 9 مايو عام 1950، عن عمر يناهز الثانية والستين

ليست هناك تعليقات: