28‏/02‏/2013

نازلي حسين...شجرة زيتون غرستها ثورة يناير

شابة مصرية، عملت كإخصائية نفسية لذوى الاحتياجات الخاصة، ومنذ الخامس والعشرين من يناير 2011، ومع سقوط أول شهيد أمامها في موقعة كوبري قصر النيل يوم جمعة الغضب، صارت نازلي حسين تُعرف نفسها فقط كثائرة من التحرير، ولأن هناك مقولة عربية قديمة تقول "لكل امرئ من اسمه نصيب"، واسم نازلي يعني زهرة شجرة الزيتون، استمدت الثائرة الشابة من ذلك الاسم كل صفاته المميزة كرمز للسلام في الثقافة العالمية الحديثة، كرمز للحكمة في الثقافة الإغريقية، كرمز للصمود والتمسك بالأرض في الثقافة الفلسطينية الحديثة، شجرة مباركة تشبه تلك الرسالة المباركة التي حملتها نازلي وآمنت بها وتفرغت لها في البحث عن مئات المفقودين منذ بداية الثورة وحتى يومنا هذا.
ربما لم تكن صاحبة الوجه البيضاوي والملامح الطفولية تعرف يوم خرجت لتثور على نظام مبارك، الذي رضعت كراهية فساده على يد والدتها الناشطة الحقوقية غادة شهبندر منذ نعومة أظافرها، أنها ستتحول خلال اشهر قليلة إلى قبلة الخائفين والمصدومين بغياب ابن أو أخ أو زوج، حيث تحولت الإخصائية النفسية السابقة إلى صاحبة أكبر قاعدة بيانات عن الغائبين منذ بداية ثورة يناير، بالإضافة إلى المجهود الهائل التي تبذله سعياً وراء الوصول إلى مكان كل غائب، صارت الشابة التي خرجت على النظام، تقوم بدور النظام في البحث عن المفقودين، الذي اضاعهم النظام ذاته، أو ما تلاه دون اي تكليف رسمي، فقط بروح ثورة أمنت بها، وطباع شجرة زيتون صبغت روحها.
أصبحت نازلي حسين الشابة التي ولدت في عهد مبارك الجهة التي يلجأ إليها المكلومين بحثاً عن غائبيهم، ولإيمانها التام بعدم وجود أى شرعية بخلاف شرعية الثورة، ساعدت عشرات الاسر في البحث عن ذويهم، وما بين سجن ومستشفى والمشرحة ومقابر الصدقة نجحت في الوصول إلى مكان العشرات من الغائبين، فليس هناك أشد قسوة من الغياب، إلا هذا الأمل "الملاوع" في عودة غائب في الأغلب لن يعود، وما بين ثورة وما تلاها أدركت نازلي مع كل موجة أن النظام لم يتغير، وأن مفقودي نظام الصناديق يكادون يزيديون عدداً عما سبق، لتواصل دعمها التام والكامل للأسر المنكوبة بحثاً عن اسم أو صورة أو معلومة ترشد قلباً خائف على مفقود، وتتيح للاحزان أن تبدأ حتى تنتهي، أو للافراح أن تولد.
وربما في جلستها كأول "عرضحالجية" في تاريخ مصر على رصيف محكمة عابدين غارقة بين كشوفاتها الورقية بحثاً عن اسم سقط أو نجا من الاعتقال، تجد نفسك مضطرا للتشبث بالأمل، وأن تلك الثورة قد أنجبت وإن حادت يوماً عن مسارها فإنها لا محالة عائدة.
ربما لا تحب نازلي حسين الحديث عن دورها في ملف المحاكمات العسكرية كثيرا، بل تفضل عاشقة السينما الحديث عن قضية أطفال الشوارع، والبحث عن حلول خارج الصندوق لتلك القضية الشائكة، حيث يعرفها أطفال الميدان بالاسم ويهرعون إليها وقتما حلت بحثاً عن لمسة حنان أو درس جديد كما تعودت أن تعلمهم من قبل، أو تنفجر ابنة ثورة يناير دفاعاً عن الثورة ومبادئها التي لم تتحقق إيماناً بمبدأ لم تحيد عنه وهو "الثورة مستمرة".

27‏/02‏/2013

أرشيفي السينمائي: صبري فواز....."المجدع"

تقابله في البيت، في الشارع، في العمل يومياً، لأنه يشبه أخاك، اباك، صديقك أو حتى زميلك في العمل، ولكنه لا يشبه أي فنان أخر، إنه صبري فواز الممثل والمخرج والشاعر المصري الأصيل، حفيد ذلك الكاتب المصري العظيم، الذى أورثنا الفنون.
ذلك الثائر منذ الصغر، والذي منعته مبادئه وأراؤه من أن يتبوأ مكانة تستحقها موهبته، فبقى بعيداً عن الأضواء، مكتفياً بتلك الرأس المرفوعة في عزة وكرامة، بعيداً عن شهرة زائفة تكسر النفس وتذلها.
ليترك في أدواره القليلة علامات لا تخطئها العين، ولا تنساها الذاكرة، متنقل من دور لآخر كفنان يرسم لوحة لا تشابه الأخرى حتى لو تشابهت الألوان.
قدس خشبة المسرح، كما أدرك قيمتها الأوائل، فعاني من أرازل الأواخر.
كان طبيعياً أن يحتل مكانه في ميدان التحرير كما اعتاد دائماً، مختلطاً بملح الأرض وناسها، متوارياً عن أضواء يكرهها، رافعاً سيف الحق مكتفياً بظله، بعيداً عن كاميرات قنوات الأخبار، هازماً لحظات يأسه بأبيات من شعره وشعر أسلافه العظام صلاح جاهين ونجيب سرور.
صبري فواز ذلك الفنان الذي ما ان تجالسه، حتى تشعر أن روحك تغتسل بين يدي أحد الرجال الذين عشقوا الحق فوهبوه أنفسهم دون انتظار لمقابل أو ثمن.
ولان لكل امروء نصيب من اسمه فصبري فواز ، الذي صبر معتصماً بالحق حتى رأى النصر بعينيه، يستحق الأن أن يتذوق طعم الفوز، كثائر حق منتصر، وان عاندته الفلول قليلاً.
ذلك الفنان الذي تعطيه أخلاقه عن جدارة لقب "مجدع" وهو لقب احتارت في ترجمته اللغات الأخرى وتوقفت عاجزة عن معنى كلمة "جدع" وما يرادفها، يفوقها صبري بكل ماحواه من "مجدعة" ابن البلد المصري الحقيقي الذي تميز به جيداً الغث عن الثمين.

23‏/02‏/2013

العناق الأخير

تتحسس فراشها البارد قبل أن تقرر دخوله والاحتماء ببطانية صوفية من برد الشتاء القارص في مدينة حلب، تغمض عينيها قليلاً ودون أن تدري أخذت تعد صوت الانفجارات في الخارج...."واحد، اثنان، ثلاثة".
يؤلمها أنه تغير، بعد عشرة أعوام من الزواج لم يعد "أكمل" نفس الرجل الذي عشقته، والذي كان ملاذها في الحياة، منذ دخلت حياته أخرى ينكرها دوماً لم يعد هو، إنها حتى لا تعلم أين هو الآن، وهل يقاتل ضمن الجيش الحر كما اعتادته ثائراً طيلة عمره، أم أنه بين أحضان الأخرى.
تفتح عيناها وتحملق في سقف الغرفة الأبيض كصحراء من الملح، بارد بلا أي ملمح، تتمنى أن تختفي فيه، تذوب كما تذوب الألوان في ذات اللون الأبيض، تجتاحها قشعريرة فتعاود إحكام الغطاء، تبتسم إبتسامة مبتسرة لأن حوارها الداخلي شغلها عن صوت القذائف في الخارج.
*****
وفي الصباح كان عمال الانقاذ يخرجون جثتها من تحت الأنقاض وهي بين أحضان "أكمل" الذي عاد أخيراً ووجدها نائمة فلم يشأ أن يزعجها فاحتضنها ونام.


ملحوظة : الصورة المصاحبة للنص حقيقية وتم تصويرها في مدينة حلب.

14‏/02‏/2013

أرشيفي السينمائي : ''أحلى الأوقات''.... اسم على مسمى

فيلم أحلى الأوقات فيلم مختلف، يبقى في الذاكرة بعد مشاهدته مرتبطاً بابتسامة على الوجه وذكرى تشبه دائماً أحلى الأوقات في حياة أي إنسان.
يعتمد الفيلم على بعدين .. بعد زماني - عبر الحنين لاصدقاء الطفولة وذكرياتهم - وآخر مكاني - عبر الحنين للحي الشعبي القديم -، يمكن تتبع تأثيرهما في سياق الفيلم على الشخصيات الرئيسة فيه، فالفتيات الثلاث سلمى " حنان ترك " و يسرية " هند صبري " و ضحى " منة شلبي " تربطهن علاقة صداقة منذ أيام الدراسة المبكرة، ثم تفرقن كالعادة عند مغادرة المدرسة، غير أن  الصداقة المنتهية بفعل الإنغماس الحياتي سرعان ماتتجدد . فعندما تموت والدة سلمى " مها أبو عوف " ميتة عبثية في حي المعادي الراقي، تكتشف سلمى " حنان ترك " وحدتها القاسية وكذلك تخيفها أحيانا وتقلقها أحيانا أخرى الرسائل المنيرية مجهولة المصدر، بل أنها تشعر بالغربة وهي تعيش إلى جانب زوج أمها"سامي العدل". بالاضافة إلى انها كائن إنطوائي في الاصل وتحاول قدر الإمكان الإبتعاد عن الآخرين.
حتى يثير صوت محمد منير فيها الحنين للماضي - الزماني - وكذلك احدى الصور المرسلة لها ضمن الرسائل المجهولة والتي تضمها بجوار رفيقتي طفولتها، فينضم البعد المكاني من خلال عودتها إلى شبرا، الحي الشعبي الذي عاشت فيه سنوات طوال، بحيث أصبحت هذه الذكريات هي " أحلى أوقاتها " فعلاً، لذلك فهي تشعر بالـ"ونس"في هذا المكان الشعبي، في صحبة أصدقاء الطفولة.

اعتمد السيناريو كذلك على تلك الرسائل المجهولة لصناعة الحدث الرئيسي داخل سياق الفيلم، فالرسائل غير الموقعة كانت تصل من شخص مجهول،
لكنه يعلم بكل شيء، بدليل أنه يقدّم لسلمى صوراً وألبومات غنائية قريبة من قلبها، وذكريات تثير حنينها لفترة الطفولة في حي شبرا، الأمر الذي ينبهها
إلى وحدتها الشديدة في حي المعادي ، كما تكتشف أنها لا تعرف زوج أمها على الرغم من أنها عاشت معه قرابة 15 سنة في منزل واحد.

تعود سلمى لشبرا لتلتقي بصديقتها ضحى " منة شلبي " التي  إرتبطت بجارها و زميلها في العمل والذي تؤجل الظروف الإجتماعية زواجهما - في عرض عميق للازمة الاقتصادية التي يعيشها الشباب دون الغوص في تفاصيل تفسد "أحلى الأوقات - ، ويسرية الزوجة والأم التي فقدت أنوثتها نتيجة الانشغال بالحياة والاستعداد لاستقبال طفل جديد بحَملها الجديد - حالها حال ألاف الزوجات اللواتي يشعرن بنفس الشعور في اشارة الى الأزمة الاجتماعية -.

الفيلم يناقش قضية انثوية انسانية، وهو أحد الأفلام القليلة الذي يناقش قضية أنثوية بعيدا عن الجنس والعنف وهذا وحده كان كفيلا بتواجده ضمن الـ10
أفلام الأفضل في الألفية الجديدة.
ولا يعيب فيلم "أحلى الأوقات " سوى بطء إيقاع الدقائق الخمس عشرة الأولى بسبب عدم وجود حدث معين. وهذا خطأ مونتاج في الاساس.
بقي أو نشير إلى نقطة شديدة الأهمية مرتبطة ببنية القصة نفسها، وهي أن الفيلم مبني على سوء الفهم، فأغلب الشخصيات تفهم بعضها البعض خطأً،
فسلمى بطلة الفيلم تفهم زوج الأم خطأً. والمدرس يعتقد أن  سلمى  تركت حي المعادي وجاءت إليه من أجل أن تستعيده فيعتذر لها بطريقة غريبة توحي
وكأنها عادت، كما تعتقد سلمى أن هناك علاقة عاطفية ما بين الجار الشاب وبين أمها عندما يخبرها بأن الباروكة والروج يعودان لأمها. هذه البناء الدرامي القائم على المفارقة وسوء الفهم أثرى الفيلم، وأضاف إلى شخصياته وطريقة تفكيرها.

وقد نجحت المخرجة هالة خليل - في أول أفلامها الطويلة - فعلا في إقتناص اللحظات الجميلة من الماضي  مثل مشاركة الأطفال في لعب كرة القدم في أثناء عبور الطريق، أو الرقص على أنغام أغنية لمحمد منير، أو لقاء الصديقات الثلاث لتناول " الكشري "، بالاضافة الى تفجيرها كل الطاقات الفنية لأبطالها ليقدم كلا منهم دورا رائعا يبقى في رصيده الفني، وكذلك ملامح صورتها ومشاهدها التي توصل للمشاهد الإحساس بأحلى الأوقات.
وكذلك أبدعت وسام سليمان كاتبة السيناريو والحوار إذ قدمت حوار متميز للغاية يتناسب مع كل شخصية من شخصيات الفيلم التي كانت تتحدث  بطبيعتها وكأنها ليست على شاشة سينما فأعطت المشاهد بعدا حميميا.

حنان ترك تتألق في أداء الشخصية الانطوائية المترددة، الخائفة أحيانا، وتتألق بشدة متجاوبة مع الأداء الرائع لكل أبطال الفيلم،  المبدعة هند صبري التي
تتحدث اللهجة المصرية بإتقان ملفت للإنتباه وكأنها بنت من حارة شعبية بخفة دم طبيعية غير مصطنعة، و"جدعنة" حقيقية تجعل المشاهد يندمج ويتعاطف
معها منذ اللحظة الأولي - اعتبر استخدامي للفظ الجدعنة في وصف أداء تمثيلي مشيناً ولكنه حقيقة ما شعرت به -  كما أدت منة شلبي دورها ببراعة شديدة تؤكد موهبتها العالية. بالإضافة إلى موهبة خالد صالح التي لا تحتاج إلى مساحة درامية أو دور طويل لتدهش المشاهد. وكذلك موهبة عمرو واكد
التي تطل من خلال المشاهد القليلة التي يظهر فيها.

04‏/02‏/2013

أرشيفي السينمائي : ما بين تارانتينو وكوين وجو...البيضة ولا الفرخة

نعاني جميعاً تلك الايام، يتمنى بعضنا لو ولد قبل هذا بخمسين عاماً وعاش ثلاثينيات واربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، يشعر البعض بالظلم الشديد ويعتبر جيله جيلا منحوساً كتبت عليه الحياة أن يحيا اسوأ ما فيها، ويعتبره جيلاً أخر السبب الرئيس فيما نحيا فيه.
تتبادل الأجيال الاتهامات، ويبقى السؤال حائرا دون اجابة، الحياة أم الذي يحياها، البيضة أم الفرخة، وعلى الشاشة الفضية نجح البعض في الوصول لإجابة، بينما استمر البعض الخر في طرح الأسئلة
*****
في تنظيرة عبقرية للمخرج كونتن تارانتينو في الجزء الثاني من فيلمه الأهم Kill Bill على لسان بطله يقول أن "سوبر مان" هو بطله الخارق المفضل، لأنه على العكس من سبايدر مان وبات مان، شخصيته الحقيقية هي الشخصية الخارقة، بينما هم أدميين عاديين في شخصياتهم الحقيقية بينما شخصياتهم البديلة هي الشخصية الخارقة، ثم اضاف تارنتينو على لسان بطله، أن الشخصية البديلة لسوبر مان هي عبارة عن بشري ضعيف مهزوز الثقة متواضع الذكاء، وهو ما يعكس نظرة البطل الخارق لبني البشر الذي لا ينتمي لهم.
وهو ما يعكس الرؤية الشخصية لتارانتينو شخصيا لبني البشر، لهذا يقتل الكثيرون منهم في أفلامه ويستهين بهذا الدم السائل المتفجر، الذي يلون افلامه بعنف يعتبره البعض مبالغ فيه، حيث يرى المخرج الكبير أن هذا ما يستحقه البشر، بل أن هذا افضل ما يمكن تقديمه لهم.....وربما تلك هي نظرته الشخصية نتيجة ما عاناه من البشر في مجتمعه حتى وصل إلى ما وصل إليه، ممتنا بما منحته له الحياة، غاضبا مما قاساه من البشر، في الحقيقة يبدو محقاً للغاية في ظل ما نحيا ونشاهد هذه الايام.
*****
على العكس من تارانتينو يرى الأخوان كوين البشر بمنظور أخر حيث يلقيان بكل ما نواجهه إلى أزمة وجودية، وعبثية هذه الدنيا التي لا تطاق، حيث نشاهد فس أكثر افلامهم عنفاً No.Country.For.Old.Men، نهاية عبثية جدا للأحدث جديرة تماما بهذه الدنيا وغير جديرة بتلك الحياة، بينما في فيلمهم The Big Lebowski يراهن الأخوان كوين على هذا البطل الساذج في مواجهات كم التشوهات التي في الحياة، ذلك البطل الذي يشغله تبول أحدهم على سجادة صالته،ولا يزعجه تهديده بالقتل، ويجبره بعد ذلك على خوض قصة لا تخصه من قريب أو من بعيد، يعود منها كما كان
هما ببساطة يريان الجنس البشري داخل اختبار شديد العبثية، فعليهم ألا ينتحلوا شخصيات لا تمثلهم، عليهم أن يخلعوا الأقنعة ويواجهوا الحياة كما هي بوجوده عارية وايد أشد عرياً لأنها لا تستحق.
وربما كان فيلمهم O Brother, Where Art Thou? هو الصراع الأكثر جمالاً في معاندة تلك الحياة، واثبات الطبيعة الطيبة للإنسان حتى لو كان مجرماً.
الأخوان كوين يعتبان على الحياة، لأنهما يعملان سويا، لا يعيران اهتماماً لكل ما يحيط بهما من بشر، يتقبلان النتائيج بثقة مبهرة، لهذا يريان العيب في الحياة ذاتها.. ربما ..من يدري؟
*******
يختلف يوسف شاهين تماماً عن كل ما سبق، فصاحب فيلم الاختيار الذي شغله مشوار حياته فقدمه في عدة افلام مثل اسكندرية ليه، واسكندرية كمان وكمان، واسكندرية نيو يورك، كان يبحث عن الذات، عن السبب فيما صارت إليه الحياة دون إيماناً مسبق بالسبب، لا هو اختار البشر مثل تارانتينو ولا هو اختار الحياة مثل الأخوين كوين، هو فقط طرح الأسئلة وأستمر في البحث عن إجاباتها.
قدم جو فناً عظيما هو الأخر، واتاحت له تلك المعضلة اختلافاً ملحوظاً وتنوعاً بين افلامه، وسقطت ببعضها بالفعل وصعدت بالبعض الأخر إلى قمة النضج.
لكن بقي أعظم مخرج عربي بلا إجابة حقيقية، وسار على دربه المخرجون الحقيقيون في هذا الوطن، مثل محمد خان وداوود عبدالسيد وعاطف الطيب، استمروا في طرح الأسئلة بحثاً عن إجابات، قدموا فناً عظيماً لكنهم لم يرسوا على بر.
ربما هذا هو الفارق بين العوالم، بين ذلك الذي وصل إليه الغرب، وبقينا نحن فيه، فالفن مرآة الشعوب، ونحن شعوب أرهقتها الأسئلة لأنها أمتنعت عن طرحها منذ مئات السنين.
ربما ...

أرشيفي السينمائي : فيلم ( أرجو ) .. تخلى عن قناعاتك لبعض الوقت

هل تستطيع السينما تغيير قناعات المشاهد الشخصية؟.. سؤال مهم وإجابته : نعم هي تستطيع ولو حتى لبعض الوقت.

هذا تماماً ما يفعله فيلم ارجوو ( Argo ) في مشاهديه الذين يكرهون السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ويعتبرون وكالة الاستخبارات الأمريكية سي أي إيه أعتى منظمة داعمة للإرهاب في العالم، كذلك هؤلاء الذين يرفضون استضافة طغاة العالم الثالث في أي دولة، ويطالبون بتسليمهم لشعوبهم.

يجبرك الفيلم على أن تتعاطف مع المخابرات الأمريكية وعمليتها لتحرير ستة رهائن فروا من السفارة لمنزل السفير الكندي وظلوا بداخله لمدة 10 اسابيع، قبل أن تقرر وزارة الخارجية بمعاونة المخابرات تنفيذ العملية "أرجو" لإخراجهم من طهران ومن ثم إيران.

وعلى عكس تلك الأفلام التي تعمل على تمجيد الرموز الأمريكية يعالج الفيلم موضوعا شديد الإنسانية بناء على قصة واقعية أعطت للفيلم مصداقية عالية.

*****

يقدم الفيلم بن أفليك كمخرج من طراز خاص، نجح في تقديم القصة بطريقة معبرة للغاية بداية من الرسوم المتحركة التي تشرح التاريخ الإيراني في القرن العشرين ثم الانتقال للغضب العارم عند اقتحام السفارة الأمريكية بواسطة الثوار الغاضبين من استضافة الشاه، من خلال صورة مشوشة ولقطات سريعة متحركة توحي بالارتباك.

ومن خلال السيناريو الذي كتبه كريس تريو والتي كانت شخصيات المختطفين سطحية للغاية، نجح طاقم العمل على تجنيب الكراهية للغطرسة الأمريكية، من خلال تعاطف المشاهد مع مجموعة هاربة من القهر وخائفة من الإعدام، مع حرص هائل على بث العديد من التفاصيل التاريخية الدقيقة، والتي استعرضها الفيلم في تتره الختامي مقارنة بالتفاصيل الحقيقية ليؤكد تفوقه - ويستعرض عضلاته -.

ليعطي بن افليك درساً إخراجيا في كيفية تقديم الأفلام التاريخية والحرص على ابسط التفاصيل من ملابس وديكورات وحتى ذلك المكياج الرائع الذي جعل المخطوفين يتشابهون تماما مع الشخصيات الحقيقية، وهو ما لن يؤثر على المشاهد، لكن سيضع طاقم العمل في حالة تفاعلية تزيد فيها المصداقية.

*****

نعم تعاطفت مع المخابرات الأمريكية لمدة ساعتين هي عمر الفيلم، وصرخت سعيداً بعبور الطائرة التي تحمل الرهائن الستة المجال الجوي الإيراني، من خلال فيلم رائع يستحق الفوز بجائزة الجولدن جلوب، لكني أعود فوراً إلى قناعاتي بعد النهاية، منتظراً الفيلم الذي قررت فيه إيران الرد على هذا العمل، سعيداً بكشف التعاون الخفي ما بين هوليوود والـ سي أي إيه خلال أحداث الفيلم.

أرشيفي السينمائي : Flight ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع


عندما أكتب عن فيلم من إخراج روبرت زيمكس صاحب أسطورتي ( Cast Away ) و( Forrest Gump ) فعلي أن أتوقف كثيراً لأتحدث باحترام عن مخرج متميز بدأ حياته مغامراً بسلسلة افلام الخيال العلمي ( Back to the Future ) قبل أن يتألق في مجموعة من الافلام التي تعتمد على خط درامي واحد شديد الإنسانية مثل أعظم أفلامه "فورست جامب"، قبل أن ينتقل لصناعة افلام الرسوم المتحركة مثل ( Beowulf ) وفيلم ( Christmas Carol ) .
حيث يعود زيمكس في فيلمه الجديد ( Flight ) لنفس الخط حيث يستعرض قصة حياة طيار تتعرض طائرته إلى عطل بالغ وهي في الجو ولكنه ينجح فيما يشبه المعجزة في الهبوط بها، منقذا حياة 96 راكباً من ركابها الـ102 وتعتبره الصحافة ووسائل الإعلام بطلا قومياً.
لكن تتبدل أحوال الطيار تماما بعد أن يكتشف زملاؤه أنه كان يقود الطائرة وهو تحت تأثير كمية كبيرة من الكحول والمخدرات، ويدخل في صراع عنيف مع ادمانه الكحوليات ومحاولة الافلات من العقاب.
حيث يجيد زيمكس توثيق تلك التفاصيل الإنسانية بحس سينمائي مرهف يمس المشاهد، لكن يعيب الفيلم بصفة عامة رسالة وعظية شديدة المباشرة حول الإيمان ومضار الكذب وإدمان الكحول.
*****
على عكس أغلب أفلام السينما تأتي نقطة الذروة في فيلم( Flight ) قبل نهايته بخمسة دقائق، دون أن يشعر المشاهد بأي ملل وهو ما يحسب للفيلم، كما يحسب له ايضاً الأداء المتميز للغاية لبطله دينزل واشنطن، الذي ترشح لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل عن هذا الفيلم وهو يستحق الترشح تماماً هذه المرة، بينما بقيت بقية شخصيات الفيلم في الخلفية تؤدي أدوارها المطلوبة تماما كفورست جامب وكاست أواي.
ليسأل المشاهد نفسه سؤالاً هاماً : ماذا لو قام توم هانكس بهذا الدور؟
وقد نجح كاتب السيناريو جون جاتينس والذي قدم من قبل فيلم (Real Steel ) وفيلم ( Coach Carter ) في تمرير بعض المعلومات التقنية عن الطيران في سلاسة دون إزعاج المشاهد بما يجهل.
كما اعتمد على بناء الشخصية الزمني المتقطع عند المشاهد عبر مجموعة من الأحداث المروية المتفرقة عن الطفولة والشباب، لكن عاب السيناريو الاعتماد على عنصر الصدفة مرتين، خلال لقائه بصديقته، ثم اكتشافه الغرفة المجاورة في الفندق.
*******
فيلم ( Flight ) محير للغاية، فيلم عالي على المستوى الإنساني مزعج على المستوى القصصي، جيد تمثيليا وإخراجياً، ليشكل حالة سينمائية متفردة في أن تنبهر أثناء المشاهدة منزعجاً.
لدرجة أنني كنت أنتظر وجود اسم محمود أبو زيد في نهاية الفيلم مشاركاً في كتابة السيناريو، مع آية قرآنية بصوت محمود ياسين الرخيم.
ملحوظة : عزيزي القاريء أعلم أن هذا المقال النقدي محير للغاية، لكنني أنصحك بمشاهدة الفيلم، فالبعض يحب ما انتقدته في هذا المقال ولا يعتبره عيباً بدليل نجاح افلام مثل "كباريه" و"الفرح".