خلق الله الملائكة كائنات نورانية، مُكلفة بالعبادة وتنفيذ ما أمرها الله به، وخلق الحيوانات كائنات غير عاقلة تسعى في الأرض باحثة عن رزقها، وما بين الملاك والحيوان خلق الرب الإنسان ليعبده ويسعى في الأرض، مُكلفًا وحُرًا، ووضع فيه «المبدع الأعظم» لمسته الإبداعية ليميزه عن كل المخلوقات، كما قال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
كانت قدرة الإنسان على الإبداع حدًا فاصلًا بينه وبين غيره من المخلوقات، ترك فيه الخالق بضعًا من روحه عبر تلك النفخة التي نفخها في آدم، وما تميز آدم عن الملائكة وأُمروا بالسجود له إلا بتلك الخاصية {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء}.
علّم الله الإنسان بذاته الإلهية، والعلم إبداع ثم أورثه الأرض من بعد ذلك.
*****
ومع تطور الحياة على الأرض، كان الفن ابنًا شرعيًا للإبداع، ذلك النتاج المبهر للإنسانية منذ قرر أحدهم يومًا ما أن يرسم ما رآه على جدران أحد الكهوف.
ربما لا نعلم ما تلى هذا من أحداث، لكننا متأكدون أن حينها خلق الله الدهشة ونظرة الانبهار في عيون البشر، حين رأوا رفيقهم ابن آدم يُخرج بعضًا من روح الله على هيئة فن.
ومع تطور الحياة البشرية عبر آلاف السنين، علّمت الطبيعة الإنسان الموسيقى، فتفوق عليها وأبدع عبر آلاته الخاصة موسيقاه العظيمة، ومن فن إلى آخر، ارتقت روح الإنسان وسمت وتعالت، وكأن الإبداع يقربه من السماء موطنه الأصلي بعيدًا عن الأرض.
الفن يعيد للإنسان إنسانيته ويبعده عن مجرد البشرية التي تنتمي طبقًا للتسلسل الطبيعي للحيوانية.
مواطن الأرض لا يعرف التحليق مثل الملائكة إلا عندما يُبدع.
*****
ومع ظهور الفن السابع في نهاية القرن التاسع عشر، كانت عجلة التطور قد بلغت أقصى سرعة لها، فصنع الإنسان في آخر مائة عام ما لم يصنعه منذ بدء الخليقة، وصنع في آخر عشر سنوات ما لم يصنعه في المائة عام، تخطى الإبداع الحدود.
ولأن البعض في أوروبا قرر هجران كنيسته واللجوء للفن، حمل الفن على أكتافه ما لم يخلق له، تحول الفن لدى البعض إلى دين، ومن ثم تحمل جميع تبعات القبح الذي يحمله المتشددون في كل دين لدينهم، وظهر الفن منهارًا من خلال مجموعات غرائبية في الفنون من الرسم التشكيلي إلى الموسيقى إلى السينما وما إلى ذلك.
بينما دخلت الفنون في منطقتنا العربية نفقًا مظلمًا عبر مجموعة أخرى من المتشددين دينيًا الذين رأوا الإبداع حراماً، خاصة وهم يُحرّمون التفكير.
حرّموا ما أباح الله، خاصموا موسيقى الطبيعة، كرهوا ألوانها، وتبعهم البعض، متغافلين عن عمد فريضة إعمال العقل، تلك الفريضة الغائبة وأن الفن يسمو بالأرواح.
ولأن الفن مرآة لعصره، ولأننا نحيا عصورًا ظلامية جديدة رغم التطور الهائل، كان طبيعيًا أن يشبه الفن مجتمعه ويعبر عنه.
لا شك أن الفن هو لمسة وهبة إلهية لبني الإنسان، يفقد بدونها إنسانيته رويدًا رويدًا، وأنه لا تعريف محدد لقيمته كفن هابط أو راقٍ، فقط تتفاوت نعمة الدهشة من إنسان لآخر، فالله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب، والتذوق الفني رزق قسّم فيه الله الناس درجات.
الفنون ارتقاء للمجتمع والذي يقضي على الكثير من المشكلات التي لا تواجهها المجتمعات الراقية بفعل التحضر.
يغادر الوزير سيارته بعد إجراءات التأمين المشددة، يعيد ضبط رابطة عنقه، ويعدل من وضع نظارته الشمسية قبل أن يخلعها وهو يستعد لدخول مسجد الزمالك، يخلع حذاءه ويتجه مباشرة إلى شيخ المسجد محمد صديق المنشاوى الذى أنهى صلاته واستقبل الوزير مرحباً، شد الوزير من قامته وقال: «سيكون لك الشرف الكبير بحضورك حفلاً يحضره الرئيس عبد الناصر»، ففاجأه الشيخ محمد بقوله: «ولماذا لا يكون هذا الشرف لعبدالناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت محمد صديق المنشاوى»، ورفض أن يلبى الدعوة.
محمد صديق المنشاوى ولد فى قرية المنشاة التابعة لمحافظة سوهاج عام 1920، وأتم حفظ القرآن فى الثامنة من عمره، فاصطحبه عمه الشيخ أحمد السيد معه إلى القاهرة ليتعلم القراءات وعلوم القرآن، ونزل فى ضيافته، وعند بلوغه الثانية عشرة درس علم القراءات على يد الشيخ محمد مسعود وأتقنه، ليصبح محمد الصغير شبيها لوالده الشيخ الكبير صديق المنشاوى الذى ورث حلاوة الصوت والتفرد فى طريقة التلاوة وأحكام القراءة عنه.
المقرئون يتنافسون للاختبار فى الإذاعة، بينما يرفض الشيخ محمد أن يختبره أحد، ترسل له الإذاعة أكثر من إخطار ليوافيها، ليتم اعتماده رسمياً، يواصل الرفض، فترسل له وحدة تسجيل لتسجل له كى يعرض التسجيل على اللجنة، فى سابقة لم ولن تحدث فى تاريخ الإذاعة، ولكن اللجنة ترفض التسجيل وبعد عناء يوافق الشيخ على الاختبار.
اعتاد دائماً المواجهة بروح مقاتل قلما تتواجد مع هذا الحس المرهف فى القراءة، لذلك عندما أشاع البعض ضعف صوته، أصر بعد تعطل الميكروفون فى إحدى السرادقات على أن يقرأ بين الناس ماشياً على قدميه تاركاً دكة القراءة والناس تتجاوب معه حتى بهر الناس بقوة صوته.
وعندما عرض عليه أحد الموسيقيين الكبار فى فترة الستينيات أن يلحن له القرآن قائلاً له: يا شيخ، أنت الصوت الوحيد الذى يقبل الموسيقى فى القرآن، قال له: يا سيدى لقد أخذت الموسيقى من القرآن فكيف تلحن أنت القرآن بالموسيقى فخجل الرجل من نفسه.
وقد اعتمدت مدرسة «المنشاوية» التى ينتمى إليها الشيخ محمد ووالده وأخوه على مذهب «النهاوند»، وكان الشيخ عاشقاً صوت أم كلثوم، ويقول إن فى صوتها قوة رقيقة ونغماً موسيقياً، كذلك كان يعشق صوت الشيخ طه الفشنى وبخاصة أداؤه الرفيع فى الابتهالات والتواشيح الدينية. زار العديد من البلاد العربية والإسلامية وحظى بتكريم بعضها، حيث منحته سوريا وسام الاستحقاق من الدرجة الثانية عام 1956م، كما منحته إندونيسيا وساما رفيعاً فى منتصف الخمسينيات، وزار باكستان، والأردن، وليبيا، والجزائر، والكويت، والعراق، والسعودية وقد ترك الشيخ أكثر من مائة وخمسين تسجيلاً بإذاعة جمهورية مصر العربية والإذاعات الأخرى، كما سجل ختمة قرآنية مرتلة كاملة تذاع بإذاعة القرآن الكريم وتلاوته، تزوج مرتين أنجب من زوجته الأولى أربعة أولاد وبنتين، ومن الثانية خمسة أولاد وأربع بنات، وقد توفيت زوجته الثانية وهى تؤدى مناسك الحج قبل وفاته بعام. وفى عام 1966 أصيب بمرض دوالى المرىء ورغم مرضه ظل يقرأ القرآن حتى توفى - رحمة الله عليه- فى يوم الجمعة 20 يونيو 1969م.
نعاه الشيخ الشعراوى، وقال عنه: «إنه يركب مركباً ويبحر فى بحر القرآن الكريم ولن يتوقف هذا المركب عن الإبحار حتى يرث اللهـ سبحانه وتعالىـ الأرض ومن عليها».
قال يوسف بن الحسين الرازى: «حضرت ذا النون، فقيل له: يا أبا الفيض، ما كان سبب توبتك؟ قال: نمت فى الصحراء، ففتحت عينى فإذا قنبرة عمياء سقطت من وكر، فانشقت الأرض، فخرج منها سُكُرُّجَتان ذهب وفضة، فى إحداهما سمسم، وفى الأخرى ماء، فأكلت وشربت. فقلت: حسبى، فتبت ولزمت الباب إلى أن قبلنى».
كان ذو النون المصرى، ثوبان بن إبراهيم، أحد أعلام التصوف فى القرن الثالث الهجرى، ومن المحدثين الفقهاء، ولد فى أخميم فى مصر سنة 179 هـ الموافق 796م، وتوفى سنة 245 هـ الموافق 859م.
وربما كان شيخنا محمد الهلباوى تمام كلمته، ذلك الطفل المولود فى باب الشعرية فى القاهرة يوم 2 سبتمبر 1946، والذى حفظ القرآن كاملاً على يدى جده وسميه الشيخ محمد الهلباوى الذى كان شيخا بقرية «ميت كنانة» فى محافظة القليوبية، قبل أن يحصل على إجازة التجويد من الأزهر الشريف.
قال ذو النون المصرى: «الاستغفار جامع لمعان، أولها: الندم على ما مضى. الثانى: العزم على الترك. الثالث: أداء ما ضيعت من فرض لله. الرابع: رد المظالم فى الأموال والأعراض والمصالحة عليها. الخامس: إذابة كل لحم ودم نبت على الحرام. السادس: ذوق ألم الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية».
كانت تلك الكلمات التى يرددها محمد الهلباوى أثناء التحاقه بمعهد الموسيقى العربية لدراسة علوم النغم والأصوات والمقامات، قبل أن يزيد التبحر فى العلم والثقافة يقراءة «تاريخ الموسيقى» لجورج فارمر، وكتاب «الأغانى» لأبى الفرج الأصفهانى وغيرهما.
لم يكتف كذلك الشاب محمد الهلباوى، الذى بدأ تلاوة القرآن وإنشاد السيرة النبوية والتواشيح الدينية وعمره لم يتجاوز الخامسة عشرة، بالقراءة والدراسة بل بدأ فى تقليد مشاهير قراء القرآن الكريم: الشيخ محمد رفعت، والشيخ طه الفشنى، والشيخ منصور الشامى حتى توصل لشخصيته الصوتية المستقلة، التى رسّخت له قدماً فى دولة التلاوة وسط «الكبار».
قال يوسف بن الحسين: «حضرت مع ذى النون مجلس المتوكل، وكان مولعا به، يفضله على الزهاد، فقال: صف لى أولياء الله. قال: يا أمير المؤمنين، هم قوم ألبسهم الله النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من إرادة كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته».
ولطالما كان الشيخ محمد الهلباوى خلال كل المهرجانات الدولية التى ابتهل وأنشد فيها، وتلك المحاضرات التى ألقاها فى جنوب أفريقيا وفرنسا وإيران مجللاً بنور الله الساطع فى محبة مستمعيه وتلاميذه.
انضم للإذاعة عام 1979 مبتهلاً وموشحاً، وانضم إلى أساطير الغناء الصوفى فى قلوب عشاقه فى مصر منذ تعلم النطق، كما يقول مريدوه.
وتوفى في 16 يونيو 2013.
قال الإمام الشهيد الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه «مِن دَلائِل عَلامات القَبول الجُلوس إلى أهلِ العقول، ومِن علامات أسبابِ الجَهل المُمَارَاة لِغَير أهلِ الكفر، وَمِن دَلائل العَالِم انتقَادُه لِحَديثِه، وَعِلمه بِحقَائق فُنون النظَر».
فى الجنوب من صعيد مصر، وفى محافظة قنا، مركز أرمنت، وتحديداً فى قرية المراعزة، ولد الطفل عبدالباسط محمد عبدالصمد عام 1927 لأب يعمل موظفاً فى وزارة المواصلات، وجد حافظ للقرآن متمكن من تجويده، وكعادة أهل الصعيد والريف فى هذا الوقت ذهب الطفل الصغير عندما أتم السادسة إلى كتاب القرية لاحقاً بشقيقيه الأكبر سنا، حتى أتم حفظ القرآن فى العاشرة من عمره، وعندما قرر مع والده أن يسافر إلى طنطا كى يدرس القراءات ويجود حفظه أشار عليه شيخه أن يدرس على يد الشيخ سليم، الذى كان قد تم نقله بالمصادفة إلى مدينة أرمنت ليلازمه عبد الباسط عبدالصمد، ويتقن على يديه كل علم القراءات، استعداداً لنقلة أخرى فى حياته.
يقولون فى الأثر «إن للذهب رنيناً، يشبه صوته درجة نقاء هذا الذهب»، كذلك كان صاحب الحنجرة الذهبية الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الذى بهر المستمعين عندما قرأ سورة «الأحزاب» للمرة الأولى فى مسجد «السيدة زينب» عام 1950، وسط حشد من شيوخ المقرئين تصدرهم الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى والشيخ مصطفى إسماعيل، ثم عاد بعدها إلى قريته رافضاً أن يتقدم للإذاعة.
لكن الشيخ «الضباع» يذهب بتسجيل صديقه فى المولد الزينبى للإذاعة، لينبهر الجميع بأداء الشيخ عبد الباسط ويتم اعتماده من خلال تسجيل صوتى للمرة الأولى فى تاريخ الإذاعة، إلا أنه ارتبط بالمشهد الحسينى، فكان بعد انتقاله للقاهرة بفترة إماماً لمسجده، محققاً قوله بجلوسه صغيراً مع أهل العقل متعلماً، ثم معلماً ومصححاً بعد ذلك، ومع انطلاق شهرته فى الآفاق، لدرجة أن البعض قال إن مبيعات أجهزة الراديو زادت من أجل سماع صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الذى تم تكريمه بعد ذلك فى أكثر من دولة منها سوريا وماليزيا، والسنغال وباكستان. يقول علماء التجويد والترتيل إنه لم يقرأ القرآن فى العصر الحديث مثل الشيخ عبد الباسط عبدالصمد، الذى شكل مدرسة وحده، لم تعتمد فقط على تعاليم وفنون القراءة والتجويد، بل اعتمدت على الاندماج التام مع معنى الآيات التى يرتلها، لتتشكل الطبقة الصوتية طبقاً لنوعية هذه الآيات، فيصبح صوته نبضاً معبراً عما يقرأ، وهو ما أثر فى الكثير من المستمعين وعشاق كتاب الله، الذين اعتبروا الشيخ هو القارئ الأول الذى لا تخلو مكتباتهم من تسجيلاته، إلا أن الشيخ الذى أنهكه مرض السكر والفشل الكبدى سافر إلى لندن عام 1988 لتلقى العلاج، لكنه عاد بعد أن وصلته البشارة بلقاء ربه، وتوفى فى 30 نوفمبر 1988، لتقام له جنازة رسمية عالمية، وتفقد مصر صوتها الذهبى الذى لن يتكرر.
طفلان شقيان يهربان يومياً من كُتاب قريتهما وشيخه عبدالرحمن النجار، صاحب العصا الغليظة والعقاب السريع الجاهز، يسيران لمسافة 7 كيلومترات من قرية ميت غزال وحتى قرية الدفرة ليلعبا سوياً بعيداً عن أعين الرقباء، وعن التزام الدرس فى «الكُتاب»، ولأن مصير أحدهما ارتبط بكتاب الله بما يشبه النذر، كان أهالى تلك القرية يعودون بالطفلين إبراهيم الشال ومصطفى إسماعيل إلى شيخهما، ليعيد تهذيبهما على «الفلكة»، مما أدى لتأخر حفظ مصطفى إسماعيل القرآن حتى أتم الثانية عشرة من عمره، ورفض شيخه أن يفرط فيه ويتركه للهو بسبب حلاوة صوته وسرعة حفظه، فقدم للتلاوة والتجويد المقرئ الملكى مصطفى إسماعيل، الذى التقى بعدها مصادفة بالشيخ محمد رفعت، وقرأ عليه القرآن، فأشاد بإمكانياته وطلب منه إتقان أحكام التجويد، وفنون التلاوة، ليكون نبوءة محمد رفعت الواجب تحقيقها، فأخذ «مصطفى» على نفسه عهداً بإتقان التجويد عن طريق أهل ذلك العلم، فلزم الشيخ محمود حشيش، وكان من قرَّاء المعهد الأحمدى، الذى تعهد الشيخ بالمتابعة والتوجيه، إلى أن تحقق المراد.
لم يكن اهتزاز القطار فى الطريق من طنطا إلى القاهرة ذلك اليوم فى منتصف القرن الماضى ناتجاً عن القضبان الحديدية، بل كان يهتز طرباً لحدث ينتظر هذا الشيخ الشاب، الذى أخذ يرتل الآيات القرآنية فى سره متابعاً قطرات المطر، التى غسلت زجاج العربة ليبدو كل ما خارجها واضحاً نقياً أمام الشيخ.
وصل قبل موعد بدء الاحتفال بمسجد الإمام الحسين إلى حفل الإذاعة الذى دعاه إليه الشيخ محمد الصيفى، أحد أساتذته، واستعد ليسمع ويتعلم من قراءة الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى، الذى غاب بعد أن أصابه الشتاء وتقلبه بالمرض، ليصر شيخه على أن يتقدم مصطفى إسماعيل ليتصدر الحفل بآيات الذكر الحكيم، ليقرأ صاحب الصوت الملائكى سورة التحريم لمدة نصف ساعة بدأت من الساعة الثامنة حتى الثامنة والنصف وسط استجابة الجمهور، وما إن انتهى من قراءته، حتى أقبل عليه الجمهور يقبله ويعانقه ويستمع الملك فاروق إلى تلاوة الشاب، التى يحسبها السامع تسابيح الملائكة، فيأمر بتعيينه قارئاً للقصر الملكى قبل أن يتم اعتماده قارئاً بالإذاعة فى سابقة لم ولن تحدث فى تاريخ مصر.
فى نفس هذا التوقيت كان أحد المعتقلين السياسيين حريصاً على تقليد قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل فى المعتقل، حيث اعتبر القراءة سلوته وحريته، التى يعبر بها جدران السجن، وبعد سنين من هذا الاعتقال كان محمد أنور السادات قد صار رئيساً لمصر، حين توفى الشيخ الجليل الذى كان صاحب نَفَس طويل فى القراءة التجويدية، فكان صاحب مدرسة جديدة فى أسلوب التلاوة والتجويد، وسجَّل بصوته القرآن الكريم كاملاً مرتلاً، وترك وراءه العديد من التسجيلات المجوَّدة، وكان رحيله كما أراد وقابل وجه ربه يوم الجمعة 22 ديسمبر 1978، وهو يقرأ القرآن الذى مازال يتردد بصوته فيهز أفئدة المسلمين من شرق الدينا لغربها.
«رحلت صاحبة الديوان (السيدة زينب) وتركت بعضاً من بركتها حول المسجد الذى دفنت فيه».. هذا ما قاله شيخ كُتّاب مسجد فاضل باشا فى درب الجماميز بحى السيدة زينب عندما سمع ترتيل ذلك الطفل الصغير الذى لم يتعد الخامسة من عمره بوجهه البيضاوى وجبهته العريضة، وتلك العيون التى خبا نورها لكنها أبت إلا أن توحى للناظر إليها بأنها تبادله النظر، وهذا الأنف المستقيم الذى كأنه استمد استقامته من كرامة غالية، وفم صغير تخرج منه آيات الرحمن، وكأن الروح قد قدت من اللوح المحفوظ.
إلا أن هذا الطفل الذى ولد قبل احتلال الإنجليز لمصر بأسابيع قليلة، فقد بصره عندما أتم عامه الثانى، ولم يمهله القدر سوى سنوات قليلة درس فيها علم القراءات وعلم التفسير ثم المقامات الموسيقية على أيدى شيوخ عصره قبل أن يختطف الموت والده مأمور قسم شرطة الخليفة وهو فى التاسعة من عمره، ليضيف اليتم إلى روح الطفل حساسية احتاجتها روحه كى تتكون شخصية قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت، الذى ما لبث أن تولى قراءة القرآن فى المسجد نفسه الذى تعلم فى كتابه، ليذيع صيته وتتسع شهرته ليسكن رويداً رويداً فى قلوب عشاق كتاب الله.
فى 1934 استعدت الأمة المصرية فى زخم الأحداث السياسية الهائلة التى كانت تعصف بالبلاد، لاستقبال بث الإذاعة المصرية، بعد توقف العديد من الإذاعات المحلية، ولم يجد ميكروفون الإذاعة صوتاً يصاحبه فى لقائه الأول بالجمهور سوى كروان الإذاعة- كما أطلق عليه فيما بعد- ليصافح صوته آذان المستمعين بأول سورة الفتح «إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً»، وقد كان لـ«رفعت» طريقة خاصة فى تجويد القرآن، حيث كان يهتم بتجسيد المعانى الظاهرة عبر طبقات صوته المختلفة والمقامات الموسيقية المتعددة ليصل المعنى لكل جوارح المستمع قبل أذنه.
لم يسبق أن اهتم أحد بمخارج الحروف وأعطى كل حرف حقه، كما فعل الشيخ محمد رفعت حرصاً على تمام المعنى وكماله، لهذا أبكى من سمع آيات العذاب، وأشعل حب العابدين إلى لقاء ربهم بآيات الرحمة حيث كان ممتلئاً تصديقاً وإيماناً بما يقرأ.
مازالت معالم شهر رمضان فى مصر ثلاثة.. صلاة التراويح فى المساجد.. انتشار الطعام والضياء فى الشوارع.. أما فى البيوت فصوت الشيخ محمد رفعت الذى رحل منذ 72 عاماً لكن صوته فى رفع الأذان وقراءة القرآن لم يزل مرتبطاً فى أرواح المصريين بالشهر الكريم، ذلك الصوت الذى وهبه الله إياه، وكى يزيد فى اختباره أصابه سرطان الحنجرة فى نهايات عمره، ليوقف المرض الصوت، ويعجز عن إيقاف الروح، ليرفض الشيخ تلقى أى مساعدات عرضها عليه الملوك والأمراء بحجة أن قارئ القرآن لا يهان، لتبقى الكرامة لذلك الرجل الذى رفض صغيراً أن يرتزق بالقرآن، فيرزقه صاحب القرآن، وليرحل عن عالمنا فى نفس يوم ميلاده الموافق 9 مايو عام 1950، عن عمر يناهز الثانية والستين
مد القمر أشعته الفضية على دروب وتلال الصحراء برمالها الذهبية، فشعت لوناً مهيباً، يليق بمقر «إقامة» ابن الفارض، سلطان العاشقين، قرب مكة المكرمة.
احتل الصمت كل المساحات الممكنة، انتظاراً لوصول الحلاج فى لقاء أسطورى، خيالى. اجتمع الشيخان، وانتهت الصلاة، وبدأ كل منهم يردد شعر الآخر، فى حب وخشوع، تغير اتجاه الرياح وطبيعتها، وتحول صفيرها إلى نغم على «سلم» اهتزازات جسدى الشيخين من الوجد والطرب، حتى ألقى ابن الفارض أبياته الأخيرة:
قلْبى يُحدّثُنى بأنّكَ مُتلِفي.. روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ
لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إن كُنتُ الذي لم أقضِ فيهِ أسى ومِثلى مَن يَفي
ما لي سِوى روحي وباذِلُ نفسهِ في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمُسرفِ
فَلَئنْ رَضيتَ بها فقد أسْعَفْتَني يا خيبة َ المسعى إذا لمْ تُسعِفِ
صمت الشيخان وسرت كلماتهما فى الآفاق، عابرة البحر الأحمر نحو مصر، لتستقر فى مدينة أسيوط، ليولد بها بعد مئات السنين «سلطان المنشدين» أحمد التونى.. كلمة سلطان العاشقين ابن الفارض ودعوة الحلاج.
■ ■ ■
عشق التونى منذ نعومة أظافره شعراء الربابة، حماة السير الشعبية، وتتبع غناءهم فى صعيد مصر، إلا أنه عندما قرر الغناء، انحاز لسير الأولياء والعارفين بالله، والسالكين فى مدارجهم، الجُنيد والرفاعى والدسوقى والجيلانى، وغيرهم من الدوحة الشريفة.
عشق الكلمة منذ البداية، ولم يدرك فى بداياته وأثناء تنقله بين موالد الصالحين أهمية الموسيقى، غنى مرتجلاً دون لحن.. فأطرب. بعد ذلك، أدرك قيمة الموسيقى، فكون فرقته من ثلاث آلات، الكمان.. بعزفه الواصل لأوتار الروح، والناى.. مدرسة البكاء، وآلة إيقاعية.. تضبط «هارمونى» أُختيها. تعودت فرقته أن يفيض الشيخ بالشعر وتعزف هى وراءه، معتمدة على مسبحته التى يضبط بها الإيقاع، ناقرا على كأس زجاجى.
■ ■ ■
يدرك أن العمر قد تقدم به، يتذكر شبابه حين كان ينشد لـ6 ساعات متتالية فى الموالد، ولكنه الآن على مسرح فى باريس، يستعد للغناء، مؤمنا برسالته التى أفنى عمره من أجلها، وهى إيصال رسالة التصوّف الإسلامى للعالم كله، بوصفه نعمة لكل البشر، وليس حكراً على أتباع محمد.
يعتلى المسرح فى حالة وجد، مستلهما ما حلق عبره شيخاه قبل مئات السنين. يصمت الحضور الذين لم يرهم، يبدأ دون تحضير فى ترديد أشعار كبار أئمة التصوف، أبوالعزايم وابن الفارض والحلاج، متمايلاً مع موسيقى، شكلت مع غنائه لوحة شديدة الرقة والتأثير. تتوحد أجساد وأرواح الجمهور، مع سلم موسيقاه هو، ويصبح المسرح حالة مُندمجة من «الوصل والوجد»، تسمو بهم إلى حقب تصوف، شهدت ألم، وفرح، الحلاج، شهيدا.
تعد قصة دوريان جراي، أسطورة من الأساطير التي كتبها الروائي أوسكار وايلد، والتي تناول فيها حكاية اللورد هنري وتون الذي دخل على صديقه الرسام باسيل هولورد فرآه مندمجا في رسم بورتريه لشخص رائع الجمال وشاب وسيم اسمه دوريان جراي.
كان «باسيل» قد تعرف عليه مؤخرا وأعجب به لروعة شخصيته وجاذبيتها ودماثة أخلاقه، فلا يمر يوم دون أن يراه ويتحدث معه، ويقول عنه: «في وجهه شيء يجعلك تثق به».
ويتعرف الاثنان بدوريان جراي الذي «يهيم عشقا بصورته»، على الرغم من أن الصورة تتغير رويدا رويداً مع الوقت وتظهر على ملامحها القسوة وملامح الزمن وكأنها رمز لفساد روحه كلما زادت أخطاؤه، حتى يطعن الصورة يوما بخنجر فيموت على أثرها.
يشبه هذا كثيرا الدكتور مصطفى حجازي الخبير الدولي في مجال التطور المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي وحوكمة الكيانات الاقتصادية والاجتماعية، وصاحب دعوة إحياء التيار الرئيسي المصري، الذي كان أول من أصّل لمعنى «أنسنة الإدارة» في الثقافة المؤسسية للشركات في منطقة الشرق الأوسط، والذي تم تعيينه مستشارا للشؤون الإستراتيجية للرئيس المؤقت عدلى منصور في أعقاب عزل محمد مرسي عن رئاسة مصر.
ولد مصطفى حجازي في القاهرة ودرس فيها حتى سافر إلى الولايات المتحدة للحصول على دكتوراةه الفلسفة في الهندسة والإدارة الاستراتيجية للأزمات من جامعة جنوب كاليفورنيا، وعمل أستاذًا للإدارة والفكر الاستراتيجي والتطور المؤسسى في جامعة جنوب كاليفورنيا، ثم صار خلال العقد الأول من الألفية الجديدة أحد أهم منظري التنمية البشرية في مصر.
وما بين ثورة وضحاها، ومقعد في السلطة للمرة الأولى كمستشار لرئيس مؤقت، يتحول خبير التنمية البشرية عن وجهته، وبعد عرض ساحر من خلال مؤتمر صحفي رطن فيه «حجازي» باللغة الإنجليزية بطلاقة، ولقاء تليفزيوني مع الإعلامي محمود سعد، يتحول إلى «أيقونة ذكورية» تتحدث عنها نساء مصر بوله وإعجاب، ليصل الأمر بالبعض إلى ترشيحه ليجلس على مقعد الرئاسة في مصر عند أول انتخابات.
«دوريان جراي» المصري، في أول تصادم حقيقي بين الثورة والسلطة التي صار يمثلها، يرد في غضب أن المظاهرات التي جاءت به ومن معه إلى تلك السلطة تهدف إلى هدم الدولة، التي يمثلها أيضًا، لكنه لا يلحظ هذه المرة كـ«صاحب الأسطورة»، التغير الواضح في صورته، منذ برر فض اعتصام «رابعة العدوية» أمام المجتمع الدولي والمحلي، وحان الوقت ليبرر «اعتقال المتظاهرين» وحفاظا على الدولة، وأن ذلك يتماهى مع صورة رواية أوسكار وايلد بملامح لم تعد تشي بالثقة في غياب أي «أنسنة» للإدارة.
لم يكن هذا المنزل العريق غريبا على كل سكان المنطقة، الذين يدركون جيدا قيمته وأصالته، حتى لو أصابت حوائطه بعض التشققات وزال لونها بفعل الزمان الذى لا يرحم، ولم يكن الجيران بمعزل عما يجرى داخل البيت من إعادة ترتيب، لدرجة أن بعضهم حاول التدخل فيها، بحجة الجيرة تارة وبلعبة المصالح تارة أخرى.
حتى العائلة الكبرى التى تنتمى إليها تلك العائلة التى تسكن المنزل، انقسمت حول سكانه فرقا وشيعا كثيرة، والعجيب أن كل فرقة عادت الأخرى، ولم تحاول مجرد الاقتراب منها.
وفى الداخل جلس الجد العجوز المتصابى بتلك التجاعيد التى جعلت وجهه أشبه بجذع شجرة عجوز، وأشار صفار أسنانه وتلك النظرة الماكرة فى عيونه الضيقة مع هذا الجاكيت الأخضر والبنطلون الأحمر ومعهما القميص الأصفر الذى تزينه رابطة عنق أرجوانية إلى مهنة الرجل السابقة كـ«قواد» محترف، يتحدث إلى أحفاده التسعة المختلفين دائما وأبدا بوصفه مرجعيتهم وجدهم.
لكنه كان يعرف جيدا أنهم لا يحترمونه، بحكم تلك المهنة التى مارسها منذ ظهوره للحياة عام 60، كان «التليفزيون الرسمى» يعلم أن أحفاده لن يتفقوا على شىء إلا احتقاره، لهذا استمر فى الحديث دون أن يسمعه أحد، فقط الكل متوجس من الآخر.
على الجانب الآخر على تلك الأريكة القديمة بجوار النافذة جلست «ريم» الحفيدة الأكبر سنا والتى يعرفونها باسم «دريم» بعد أن فاتها قطار الزواج، دون أن يشغلها الحوار الدائر بين إخوتها، فقط وأمام مرآة صغيرة أمسكتها بيدها اليسرى أضافت المزيد من مساحيق التجميل، كانت تتمنى من داخلها أن تهبها روحا تفقدها يوما بعد الآخر، وعلى أمل أن تنجح فى مسعاها لم تسمح ظروفها سوى بالمزيد من المساحيق.
بجوارها وعلى نفس الأريكة جلست أختها المطلقة «حورية» الشهيرة بـ«المحور»، تواصل دون توقف إحدى وصلات ندبها المعتادة فى كل اتجاه، تعلم أنها كأنثى لم تملك ما يميزها يوما، تمر فى حياة الآخرين دون أن تترك أثرا، يمرون عليها وكأنها أحيانا غير موجودة، تكتفى بما وصلت إليه، ولأنها لا تملك ما تعطيه، كانت ترى أنه كلما ارتفع صوتها فقد أثبتت وجودها.
وعلى المقعد المجاور جلس الأخ الجاد المشغول دائما «طارق»، المعروف باسم «On Tv»، يتحدث فى هاتفه المحمول، وهو يتابع حوار الآخرين، كان من داخله يطلق عليه حوار الطرشان، وكان يعلم بشبابه أنه مختلف عنهم وإن كان يسبق بعضهم سنا، كان يمقت ترفهم وابتذالهم وضحكاتهم، كان يتمنى أن يضحك يوما مثلهم، لكنه ككل المهمومين لا يجد وقتا إلا للعمل.
تحسس حافظ لحيته الطويلة عقب نهاية صلاته، وقبل أن يغادر سجادة الصلاة وبدلا من بدء التسبيح، اعتدل تجاه إخوته ليسبّ منهم من لا يعجبه، كان يعتبر نفسه المسلم الوحيد فى عائلة كافرة، لا تستحق وجوده، كان يتمنى ككل القنوات الدينية، أن يزول إخوته، لتربح تجارته أكثر فأكثر.
أما «سيد بك» المعروف بالـ«حياة» فلم يُضِع وقته فى هذا الحديث الدائر، أدار بعض صفقاته الاقتصادية عبر حاسبه المحمول، واطمأن لرصيده من البورصة، اشترى كل ما تم عرضه من أسهم بأسعار عجز إخوته عن مجاراتها، كان يدرك أنه الأغنى، الأكثر ثراء، وكان يبحث عن مجد مزعوم لن يصله أبدا، اكتفاؤه الدائم باستعراض ثرائه أفقده الطريق إلى قيادة الأسرة، كما أن أصوله المادية كانت مسارا لجدل طويل من العائلة والجيران. صرخ «تيفا» فانتبه الجميع، وظهر الصمت فى المنزل للحظات، نظروا جميعا خلالها لأخيهم المريض بالتخلف العقلى، صاحب القدرات العقلية المحدودة المعروف باسم «الفراعين»، كان يفعل هذا ليجذب انتباههم، وكانوا يدركون أن العائلة الكبرى تستدعيه كثيرا، إما لتسخر منه، أو يعتبره بسطاؤها «بركة» ككل «عبيط» فى ثقافات بلادنا.
ربت «سامح»، أو «سى بى سى» على ظهر أخيه المريض ليصمت، استجاب الأخ لآخر العنقود، ذلك الشاب الملىء بالحياة، والذى تغدق عليه الأموال من كل جانب، «دلوعة الأسرة» كما يقولون، الذى يرتدى أزهى الثياب، والذى لا يدخن سوى السجائر المستوردة، ويتابع عن كثب كل التطورات الغربية فى مجاله ويعيد طرحها لعائلته، كان يخطط فى داخله لقيادة تلك العائلة يوما، إلا أن صراعه مع أخيه «متولى» المعروف باسم «مصر 25» وكل من يتبعونه من العائلة الكبرى كان شغله الشاغل فى تلك المرحلة، كان يعلم أنه صراع سوف يفوز به أحدهما فى النهاية ليموت الآخر، وكان مستعدا لقتل أخيه.
وكان «متولى» أيضا يتمنى قتل أخيه الأصغر، ولأنه امتهن مهنة جده، وتعلمها منه درسا بعد درس، وأضاف إليها ما عجز جده عنه، حيث نجح فى إقناع من يتبعونه فى العائلة الكبرى أنه يمارس عملا شريفا، بقدراته الخاصة حول «القوادة» لعمل يفخر به، يعايره الآخرون لكنه أيضا يعايرهم، ويستعين بـ«حافظ» أحيانا ليجرسهم، لأن عائلتهم الكبرى كانت تعتبره شيخا لا يخطئ، وكان يؤمُّهم معه أحيانا أخرى، القواد يؤم العائلة فإلى أين تصل؟
تشابكت أصوات الجميع المرتفعة، وبدت صالة المنزل التى اجتمعوا فيها أشبه بميدان مزدحم، ينظم مروره الغضب، وتحدد قوانينه الضجة، يحاول كلا منهم أن يعلو بصوته فوق الآخر، فتتعثر الكلمات ولا تصل إلى مبتغاها، فقط يملأ الضجيج ساعات الإرسال، وقبل أن ينفضّ الجمع دون أن يستفيدوا من لقائهم، يقطع الضجة رنين متواصل لجرس باب المنزل، يتكاسل الكل عن فتح الباب، فيستمر الرنين دون هوادة، وعندما يفتح الجد الباب مستجيبا لكل منادٍ كما اعتاد دائما، يدخل «نواف الغامدى» المعروف باسم «الجزيرة» وعلى وجهه ابتسامة لزجة قائلا: اتمسوا بالخير، كيف حالكم، أنا بلشت تنظيم فى المنزل اليوم، لا تغيروه طال عمركم.
خلق الله كندة علوش من السحاب، تشبه تماما تلك الندف البيضاء التى تمر فى السماء، فتمنع الحر وتهبنا المطر، وتشبه موهبتها تلك القدرة المدهشة على النماء التى يهبها المطر للأرض الخصبة.
ولأن لها نصيبا من اسمها، كانت كندة ذلك الحجر الثمين الذى خرج من رحم جبل الموهبة، وكانت متزنة مقفية مليئة بالمعانى كالشاعر الكندى «امرؤ القيس» حين قال: «إذا نَالَ مِنْها نَظَرَةً رِيعَ قَلْبُهُ كما ذرعت كأس الصبوح المخمر».
خرجت من الشام كما يخرج كل طيب، واستقرت بمصر كما يستقر كل جميل، بملامح وجهها الفينيقية، بتلك الجبهة المرمرية وزوج العيون السومرية، وذلك الأنف المصنوع على عجل للحضارة الكلدانية، والشفاه العربية الأصيلة، وتلك الموهبة التى صنعها «أبوللو» إله الفنون والموسيقى والشعر عند الإغريق.
أشرقت كندة فى سوريا وسطعت فى مصر، وما للشمس بعد الدفء سوى البقاء بالقرب من تلك الأرواح التى عشقت النهار، كما عشقت هى الحق والعدل والثورة.
وربما كانت ابنة سوريا المولودة فى دمشق المدينة العريقة التى استمدت منها روحها والتى درست الأدب الفرنسى ثم النقد فى المعهد العالى للفنون المسرحية فى دمشق لتعمل كمخرجة مساعدة قبل أن تمثل مع رشا شربتجى فى أول أعمالها مسلسل «أشواك ناعمة» لا تعلم أنها تعد نفسها جيدا لتكون فنانة حقيقية فى عالم يزخر بمدَّعى الفن.
ويبدو هذا واضحا للغاية فى إخراجها فيلما وثائقيا عن عمال بلادها فى لبنان تحت عنوان «فى مهب الريح»، لتعطى درسا لا ولم تقصده للفنانين العرب ليتحدوا مع مشكلات بلادهم، يصنعون فنا للترفيه والمتعة ويشاركون أيضا فى ما يصنع الأوطان، خصوصا عندما تمر تلك الأوطان بفترات تهدد وجودها وهويتها.
شاركت أيضا مع زوجها الكاتب فارس الذهبى فى تقديم الدعم للفنانين السوريين الشباب من خلال شركة إنتاج أنشآها معًا، كأنهما يعرفان أن للبريق واجبات قبل المميزات.
كندة علوش مثال حى للفنان الحقيقى الذى صنع فنا ويشارك فى صنع وطن، فى زمن صار الفنان فيه مجرد سلعة يتاجر بها منتج من خلال فن وضيع استهلاكى يضيع الهوية ويهبط بالذوق العام.
فنانة تستحق اللقب الذى لا يستحق الكثيرون حمله، تحمل على عاتقها بصحبة رفيق رحلتها همَّ وطن وهدف حقيقى بتحقيق الذات، يحمل فى طياته كل تلك المعانى التى ننتظرها من فنانينا حين كانوا يشاركون فى صنع الوطن.
كان عقد الثمانينيات بداية ثورة موسيقية جديدة نقلت الأغنية العربية من إطارها التركي الذي يعتمد في الأساس على الألات الشرقية مطعمة ببعض الجمل اللحنية والألات الغربية، إلى إطارها الحديث حيث تصبح الأغنية في حد ذاتها مسرحا لما يلائمها من أدوات دون التقيد بشكل أو إطار معين، وكذلك وصول التكنولوجيا الحديثة إلى ستوديوهات التسجيل بقيادة حميد الشاعري ومجموعة متميزة من الشعراء والملحنين.
لكن بقيت الأغنية في هذا العصر تنتظر تلك الفتاة الصغيرة القادمة من حي شبرا التي تجاوزت العشرين من عمرها لتهبها "الشقاوة" الحقيقية التي كانت تفتقدها، ويبحث عنها هذا الجيل.
وبوجه مثلث وملامح اختلطت فيها الحضارة الفرعونية بالإغريقية، وأصول صعيدية وصوت يحمل بين طياته شقاوة شابة حملت في عينيها حبا شديدا للحياة، وعلى خشبة مسرح مهرجان الصداقة المصرية اليونانية وباللغة اليونانية قدمت أولى أغنياتها باللغة اليونانية، لتخوض بعد ذلك سيمون فيليب كامل الشهيرة بـ"سيمون" رحلتها الفنية القصيرة، التي بدأت بألبوم "تاني تاني" التي كانت بعض ألحانه لأغاني فرقة "modern talking" الألمانية، ذلك الألبوم الذي ردد من أجله شباب الثمانينيات أغنية "تاكسي" من كلمات محمد ناصر والحان حميد الشاعري، وهم يتعرفون للمرة الأولى على صوت ظنوه في البداية ضعيفا يدغدغ فقط بشقاوته منطقة ما في صدورهم لم يتعرفوا عليها بعد، بدا الالبوم مفعما بالبهجة، لكن ميله للأغنية الغربية فقط جعل البعض يحجم عن الاندماج مع "شقاوته".
أغنية "تاكسي"
http://www.youtube.com/watch?v=tHXERpLrD10
قليلون هؤلاء الذين مثلوا أمام فاتن حمامة ولاحظتهم الكاميرا، أو غنوا أمام محمد منير وأدرك الميكروفون صوتهم، لكن سيمون جمعت الحسنيين في فيلم واحد من إخراج خيري بشارة، حين قدمت دور "لمياء" ابنة فاتن حمامة، التي عملت كممرضة وعشقت زوج أختها "عرابي" قبل أن تنتحر حرقا بالنار.
كان موعدها الأول مع الكاميرا مختلف، تخلت عن شقاوتها للمرة الأولى وظهرت كممثلة حقيقية ذات موهبة واضحة، وكأنثى جميلة تثير أحلام الشباب.
كان فيلم "يوم مر ويوم حلو" شهادة ميلاد لفنانة تجاوزت مرحلة الانطلاق وباتت قدماها أكثر ثباتا.
سيمون تغني أمام منير في الفيلم:
http://www.youtube.com/watch?v=Nkbh-PiRAIs
تقدم "سيمون" ألبوم "ألو ألو" مستمرة في طريقها الذي بدأ يتضح، وتبقى أغنية "مظبوطة" علامة ذلك الالبوم، وهي الأغنية التي رددتها شابات نهاية الثمانينيات، واستغلها شباب تلك الفترة لمعاكستهن، ربما لأن كانت الأغنية تتناول "المعاكسة" قبل ظهور التحرش، لكنها كانت تعبر عن حالة من الحرية التي تطمح فيها الفتاة المصرية في هذا التوقيت، حققت الأغنية نجاحا ملحوظا خاصة بعد اختيارها للتصوير من أغاني الألبوم، بما فيها من نموذج واضح للزي والمكياج وقصات شعر مرحلة الثمانينيات، لكن "سيمون" كانت على موعد أخر في طريق أخر مع الفن، خاصة مع النجاح المتوسط الذي حققه البوم "أحب أقولك" الذي تلى هذا الألبوم، رغم بداية استخدام بعض أنواع المقسوم الشرقي في ألحان أغانيها، ثم ألبوم "باتكلم جد" صاحب اشهر دويتو أدته في تاريخها الفني أمام الفنان حميد الشاعري، والتي حققت نجاحا كبيرا.
أغنية "مظبوطة" من ألبوم "ألو ألو
http://www.youtube.com/watch?v=IzYE_suYCGw
أغنية "ماشية في حالي" من البوم "أحب اقولك"
http://www.youtube.com/watch?v=V3FBcnmcQus
أغنية "باتكلم جد" من البوم "باتكلم جد"
http://www.youtube.com/watch?v=PafhN2wg7Bc
يبقى عام 92، عاما مميزا في مشوار النجمة التي أتمت عامها الـ26 بتقديم فيلمي "الهجامة" أمام ليلى علوي، "حالة اشتباه" أمام فاروق الفيشاوي و"أيس كريم في جليم" امام عمرو دياب.
العمل في فيلم من تأليف أسامة أنور عكاشة وأخر من إخراج خيري بشارة في عام واحد شهادة تخرج نهائية للفنانة الشابة من مدرسة التمثيل، من خلال دورين مختلفين نهائيا، لعبتهما بحرفية وموهبة تنال مرحلتها الأخيرة من الصقل على يد صناع الفيلمين، حقق "الهجامة" نجاحا معقولا، لكن بقي "آيس كريم في جليم" علامة في تاريخ شباب بدايات التسعينيات، وكذلك عشاق عمرو دياب، خاصة عندما غنى لها "الهضبة" "حتمرد ع الوضع الحالي"، كانت سيمون نظاما يتمرد عليه دياب في أغنية سيستخدمها المصريون بعدها بـ20 عاما ساخرين من نظام يثورون ضده، لكن سيمون بدأت عادة جديدة منذ هذا الفيلم حيث تركت علامتها ورحلت، وكأنها أحد تلك الطيور المهاجرة التي قررت ألا تستقر في مكان واحد للأبد.
أغنية "أنا فقير" من فيلم "آيس كريم في جليم"
http://www.youtube.com/watch?v=vWhvPcgz8Dc
أغنية "حتمرد ع الوضع الحالي من فيلم "آيس كريم في جليم:
http://www.youtube.com/watch?v=pzZBkzAvuWA
تركت سيمون السينما عام 92، ثم تركت الغناء أو إصدار الالبومات الغنائية عام 96 عقب إصدار أنجح البوماتها "في حاجة كده"، تاركة علامتها الواضحة المميزة بالشقاوة في عالم الغناء.
وعلى رأس أغاني هذا الالبوم أغنيتها الأشهر "مش نظرة" ، وكذلك أغنية "في حاجة كده"، ربما لا نعرف لماذا توقفت سيمون عن الغناء، لكنها اختارات توقيتا ممتازا يستعد فيه جيل الثمانينات لفتح الطريق أمام جيل جديد يستخدم تكنولوجيا أكثر تطورا بأدوات جديدة في دوران سريع لدائرة النجومية يليق بموسيقى تلك المرحلة، كانت قادرة على البقاء خاصة وأنها لم تتجاوز الـ30 بعد، لكنها ككل الموهوبين الاذكياء يغادرون في القمة.
أغنية "مش نظرة" من ألبوم "في حاجة كده"
http://www.youtube.com/watch?v=vM5mDNyX3H8
أغنية "في حاجة كده" من البوم "في حاجة كده"
http://www.youtube.com/watch?v=y6Au2Gw83eU
ولأن المسرح ابو الفنون، والطائر المهاجر قد ترك بصمته على الغناء والسينما، صار لزاما على سيمون أن تقتحم المسرح أمام فنان مسرحي كبير مثل محمد صبحي، وكأن قدرها وإختيارها لا يرضى سوى بالعمالقة، ومن خلال أربعة مسرحيات هي "كارمن" و"لعبة الست" و"سكة السلامة" في نهاية التسعينيات وبداية عام 2000.
كانت سيمون تتألق على خشبة المسرح في كل عرض، تقدم طاقات استعراضية وتمثيلية درامية وكوميدية، وكأن بركانا انفجر، انصاعت لها خشبة المسرح وخلدت اسمها ضمن نجمات قليلات سطعن على المسرح بقوة يذكر منهن تاريخه سميحة ايوب وسهير البابلي.
تركت علامة من خلال تجربة قصيرة للغاية ككل تجاربها وكأن الطير المهاجر دائما ما ينتظر موعدا للرحيل، غادرت الخشبة المقدسة وهي في قمة نضجها ونجاحها، كما اعتادت دائما.
مشهد من مسرحية "لعبة الست"
http://www.youtube.com/watch?v=G3mdPpT8XjQ
تبقى "سيمون" بعيدا عن أي مقارنة يمكن عقدها على المستوى الفني، طائر غرد دائم خارج السرب، ترك بصمته في كل مجال ثم توقف وهو في السماء، فعجز معجبوه عن التوقف عن التطلع إليه على أمل أن يعاود التحليق مرة أخرى، أو لأنه صار باقيا في قلوبهم للابد في هذا المكان في الصدور الذي دغدغته في البومها الأول ولم يعرفوه حينها.
لم تصل إلينا الموسيقى الفرعونية، ولا تلك الموسيقى التى عزفها أسلافنا الأقباط فى مواجهة القهر الرومانى، ولا حتى الموسيقى التى عزفها المصريون والفاتحون العرب بعد فتح مصر.
لكننا نعرف جيدا أن الموسيقى كانت فرضا لا يغيب عن روح الشعب المصرى منذ عرفها.
منذ قررت الأم المصرية أن تهدهد طفلها فى الفراش، منذ تحايل البنَّاء المصرى على آلام عمله بالغناء، عندما روج البائع المصرى لسلعته بنداء مسجوع يليق بها، نقل سيد درويش بعض مذاقها لكنه لم يتمّه، وتعرفنا على المذاق الباقى عبر أصوات مختلفة، من صوت محمد منير الذى يشبه «الكركديه الأسوانى»، وسبقه محمد حمام الذى يشبه «التمر هندى»، وصولا إلى صوت فيروز كراوية الذى يشبه «العرقسوس»، ذلك النبات المصرى الأصيل الذى يستخرج من جذور الشجرة، وأكثر حلاوة من السكر العادى، تماما مثل شخصية صوتها، ولصوت المطربين الحقيقيين فقط شخصية تتذوقها الآذان. وبما أن لكل امرؤ نصيبا من اسمه، ولأنها سمية مطربة كبيرة، نجحت منذ طفولتها فى أن تشكل روحها تربة خصبة لموسيقى الرحبانية، روتها تلك الأصول البورسعيدية الأبيّة لتشكل صوتا مصريا أصيلا يشبه تربة ذلك الوطن، والمزيج المبهر لشعبه عبر التاريخ.
وبروح تشبه تلك التى قهرت الغزاة على خط القنال، خاضت فيروز كراوية معركتها ضد الغناء التجارى وعالمه متشعب المصالح، الذى لن يعترف أبدا بصوت كل مميزاته أنه يشبه آلة «الهارب» الفرعونية.
فقط لأن روحها تتسع كلما غنت، ولأن لصوتها دفئا يشبه تلك الليالى العائلية فى بيوت الوطن، أصرت على مشروعها وأنتجت ألبومها الأول «بره منى»، لتغنى للقهوة وللوشوش ولذلك البطل المثالى.
غنت فيروز لتسقى أرواحا، ارتوى أسلافها على يد بائع «عرقسوس» قديم ظهيرة يوم حار فى قاهرة المعز، غنت بروح مقاتل اعتنق الفن رغم أنه يخاف من «حاجة واحدة» كما شدت فى ألبومها الوحيد.
ومع انشغالها بتسجيل ألبومها الجديد كانت تهمس دون انقطاع أن «السمكة يمكن أن تفسد من داخلها دون أن يفسد رأسها»، كانت تعلم جيدا أن تلك الروح التى وهبها الله لها ليست ملكا لأحد، سوى لذلك المطرب القديم الذى قضى نحبه فى أزقة مدينة ساحلية أو قرية ريفية على أمل أن يسعد رجل هزمه الحزن، أو يروى قصة بطل لم تهزمه غزوات التتار.
م يختلف طول الطفل الصغير الذي اجتاز عتبات ستوديو مصر لتصوير دور كومبارس صامت في فيلم "العيش والملح" خلف المطرب سعد عبدالوهاب عام 49، عن هذا الكومبارس المتكلم الذي يظهر في مشهدين في فيلم "إتش دبور" عام 2008، او كابتن فريق كرة القدم الأمريكية في مسلسل الكبير قوي مع أحمد مكي عام 2012.
فقط كان الفارق 63 عاما من العمل على الهامش، في خلفية المشهد، قريبا من النجوم دون أن ينال نصيبه من الضوء، تلهبه نار الفن لكنها لا تعطيه أكثر من الحرارة والالم بلا بريق.
ومن على قهوة "بعرة" المقر الرسمي للكومبارس في مصر، حيث يشبه وصول "الريجسير" حلول العيد على قلب الأطفال كان مقر حسن كفتة الدائم، بجسده القصير الذي لم يصل إلى متر ونصف، وملامحه الضخمة التي تعطي وجهه نمطا كاركاتيريا يناسب الأدوار الكوميدية، وزوجا من العيون سكنها الحزن بفعل تصاريف القدر ومتاعب المهنة.
وعبر ما يزيد على ثلاثين عاما، هجر الشاب الذي بدأ يدخل مرحلة الرجولة مهنة التمثيل غاضبا عدة مرات ليمارس مهنا أخرى ثم يعود إليها، حتى قدم مع الفنان محمد صبحي مسرحية "الهمجي"، ثم يضمه ذات يوم الفنان سمير غانم لفرقته المسرحية، مستغلا حجمه وسط مجموعة من الكومبارس في مسرحية "أخويا هايص وأنا لايص"، ليصير المسرح ملاذا أمنا يحصل منه على مرتب شهري ثابت، يعوضه عن سنين طويلة من التقلبات.
ربما لم تشغله ضحكات الجكهور على ما يقدمه على خشبة المسرح، ربما ألمته لأنها كانت ساخرة من حجمه وتناقضه مع عمره، ربما لم يهتم نهائيا سوى بذلك الراتب، لكن المؤكد أنه بدأ العمل فعليا وصار اسما مطلوبا على قهوة "بعرة".
شارك بعدها في العديد من الافلام مثل «علي سبايسي» مع حكيم، «حريم كريم» مع مصطفى قمر، «الساحر» مع محمود عبدالعزيز، «أصحاب ولا بيزنس» مع هاني سلامة، و«التجربة الدنماركية» مع عادل إمام، حينها بدأ وجه حسن كفتة يغدو معروفا في الشارع، وبدأ يتبرم إذا لم يعرفه أحد، ابتسم الطفل الذي دخل الاستوديو في سن العاشرة قبل 50 عاما كلما طلب منه أحد أن يلتقط معه صورة.
لكنه ظل خجولا حين تحاصر الأضواء كبار النجوم في حفلات العروض الخاصة، كان يحتل ركنا بعيدا يدخن فيه سيجارته في صمت.
وفي النهاية كان على مقعده المفضل في قهوة "بعرة يتحدث عن متاعب المهنة قائلا :«أشعر بالضيق من قلة الأعمال الفنية المعروضة عليّ، وقلة الدخل الذي لا يتعدى المائة جنيه، فيومي يسير متباطئاً وأشعر بملل لا يطاق، ولكن حالتي تتغير تماماً حينما يمر علي أحد المارة ويتعرف علي ويطلب مني صورة تذكارية، فوقتها فقط أشعر بالفخر وبأن السنوات الطويلة التي قضيتها ككومبارس لم تضع هباءً».
كان حسن كفتة ضمن الملايين التي ثارت في 25 يناير، ويتذكره الكثيرون من رفاق الميدان وهو يتقافز طفل صغير فرحا بالتنحي، ربما يتذكره البعض دائما لكنهم ينسونه بمجرد غياب الابتسامة الشاحبة عن وجوههم، ربما يترحم عليه البعض اليوم عقب رحيله بأزمة قلبية أودت بحياته في سن الخامسة والسبعين، الأكيد أن أحدا لن يتذكره غدا، وأن المئات غيره مازالوا على الدرب جلوسا على قهوة "بعرة"، يحلمون بمعاملة أكثر إنسانية، واحترام داخل "لوكيشن" التصوير، ومعاش واجر يليق بمن اضاع عمره بين النجوم السوداء على أمل الشروق.
والد مشغول بتجارة المواشي في المنيا عروس الصعيد في أربعينيات القرن الماضي، يحمل هم قبيلته الصغيرة المكونة من زوجته وأطفاله الـ14، ولا يجد متعته سوى في الجلوس في أحد مقاهي المدينة لسماع أحد شعراء الربابة منشدا بعض السير الذاتية الأسطورية لأبو زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد، وغيرهم من أساطير زمن مضى، ومع مضي الوقت وتحديدا في منتصف الخمسينيات كان يعجز عن منع طفله الـ13 أحمد من اصطحابه للمقهى لسماع الأغاني، فقط كان يدهشه تعلقه الشديد بما يسمع وحفظه بسهولة وترديده بعد ذلك بصوت جميل.
وفي شوارع المنيا وفي بيوت الاصدقاء مرت السنون بالصبي وصار شابا يافعا، يغني مجاملا في الأفراح مرددا أغاني محمد العزبي وشريفة فاضل ومحمد رشدي الذي اعتبره أبا روحياً له وكذلك العديد من نجوم الأغنية الشعبية، وحين أتم الـ24 كان قد اتخذ قراره بشد الرحال إلى قاهرة المعز، وشارع محمد علي تحديدا لاحتراف الغناء بناء على نصيحة الأصدقاء وذلك العشق والشغف غير المحدود بالغناء.
وفي مقهى «الآلاتية» في شارع محمد علي بدأ الشاب أحمد مرسي، الشهير بأحمد عدوية رحلته مع الموسيقى عازفا للناي والرق في بعض الفرق الموسيقية متحينا الفرصة للغناء هنا أو هناك في فرح شعبي أو حفلة خاصة، حتى لبى الدعوة للغناء في عيد زواج الفنانة شريفة فاضل، وسط كوكبة من نجوم الغناء.
كان المطرب الشاب غير معروف لدى أغلب الحضور، وكان حضوره لسد الفراغات الزمنية بين كبار المطربين، لكنه عندما غنى جذب أنظار الجميع، ليطلب منه صاحب كازينو «الأريزونا» العمل معه، ويوقع في اليوم التالي عقدا باحتراف الغناء رسميا.
وفي شارع الهرم حيث تذوب أغلب المواهب وتضيع بين «أكل العيش» و«عدم انتباه السميعة» كان أحمد عدوية مختلفا، وبحكم انتمائه للشارع الذي ضم صوته في بدايات مشواره الفني كان يرى أنه من الطبيعي أن يغني لغة هذا الشارع، بعيدا عن لغة أغنية هذا العصر المتحفظة والمحفوظة داخل قوالب متجمدة.
وفي عام 1973، حين قدم أحمد عدوية أغنية «السح الدح إمبو» كاسرا «تابو» الشعر المنقي والمفلتر بعيدا عن لغة الشارع والتي حققت نجاحا كبيرا للغاية، بدأ المطرب الشعبي أولى خطوات النجاح، ليتبعها بعد ذلك بمجموعة من الأغاني مثل «بنج بنج» و«سيب وأنا أسيب» و«زحمة يادنيا زحمة» ويصدر البومين لشركة «صوت الحب».
وكعادة الوسط الثقافي والفني حين يلقى من يغرد خارج السرب، خرج العشرات من الصحفيين والفنانين مهاجمين المطرب الشاب، معتبرينه مثالا للانحطاط والابتذال، لدرجة أن المخرج الكبير محمد خان اتخذ من أحمد عدوية رمزا للابتذال في فيلمه «خرج ولم يعد» حين كان بطله يحيى الفخراني يصرخ في الريف قائلا :«جايلك ياعدوية».
إلا أن هذا الجدل الدائر حول مدرسة المطرب الشعبي الشاب جعل العديد من منتجي السينما يقدمه في عدد لا بأس به من الأفلام التجارية مثل «حسن بيه الغلبان» و«العسكري شبراوي» و«رجل في سجن النساء» و«البنات عايزة إيه» و«مشاغبون في الجيش» و«أحلام البنات» و«خدعتني امرأة» و«السلخانة» و«حارة العيش الحاف» و«خمسة في الجحيم».
كما غنى رغما عن الجميع في التليفزيون المصري عام 78 بعدما أعلن الرئيس الراحل أنور السادات عن حبه لصوت «عدوية» من خلال إحيائه عيد ميلاد شقيقته الكاتبة سكينة السادات فى منزلها فى حدائق القبة ، حين طلب منه السادات غناء أغنية «سلامتها أم حسن» والتي كان يعشقها.
وفي عام 1980 صار أحمد عدوية مطربا معتمدا في الإذاعة على الرغم من رفض الوسط الفني والثقافي له رغم حماس بليغ حمدي وتقديمه صوت «عدوية» من خلال أغني مثل «بنج بنج» و«آلا أونا»، وشهادة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب له بأنه أحد أصح الأصوات العربية، بينما احتفى به العندليب الاسمر عبدالحليم حافظ بغناء أغنيته «السح الدح امبو» بينما غنا هو أغنية «خسارة» لحليم، وقال عنه الأديب الكبير نجيب محفوظ «إنه صوت قوي مليئ بالشجن» وكان يعتبر أغنيته «سيب وأنا سيب» التي كتبها مأمون الشناوي ولحنها سيد مكاوي أغنية «سياسية تدعو للسلام».
ومع نهاية عقد الثمانينات وبعدما صار أحمد عدوية ملكا متوجا للأغنية الشعبية في مصر، ومع بداية التسعينيات يتعرض المطرب الشعبي لحادث مثير للجدل، وما بين شائعات ترددت من آن لأخر عن منافسة نسائية ما بينه وبين أمير عربي اختفى صوت الشارع وخفت بأمر المرض والعجز.
لم يقطع هذا الاختفاء سوى محاولة وحيدة بإصدار ألبوم بلغة «الفرانكو أراب» وكأن صاحب الصوت خجل من أن يقدم لغته بهذا الصوت الواهن.
ومع مطلع الألفية الجديدة، وبعدما صار المثقفون والفنانون على وعي تام بقيمة ما قدمه أحمد عدوية خلال مشواره الغنائي، عاد من جديد ولكن مرتين، الأولى على يد ولده محمد الذي احترف الغناء، والمرة الثانية حين غنى من جديد مع رامي عياش ثم محمد عدوية وأخيرا فرقة «وسط البلد».
عاد الصوت الشارع هذه المرة مليئا بالخبرة، مثقلا بالتجربة المختلفة، مفعما بالتقدير لهذا الزمن الذي أدرك أخيرا قيمة أحمد عدوية.
لا تمل مقولة "لكل امرؤ نصيب من اسمه " من التكرار، وفي واقعة هي الأكثر وضوحا تمر بنا ذكرى المطربة التونسية الراحلة "ذكرى" ابنة "وادي الليل صاحبة الصوت الجبلي القوي.
تلك المطربة الشابة التي رحلت منذ 10 سنوات قتيلة على يد زوجها رجل الأعمال المصري، بسبب الغيرة أو السياسة كما قالت بعض الشائعات، بسبب الحب أو السياسة، غادرنا صوتاً يستحق أن يعيش للأبد .
أغنية "وحياتي عندك" أحد اشهر أغاني ذكرى
http://www.youtube.com/watch?v=CaZD4E8iz8Y
البداية كانت في الوطن، في تونس بين اب يشجع طفلته على الغناء وأم ترفضه حتى رحيل الوالد وهي في الثانية عشر من عمرها، أول فراق في حياة المطربة التي عانقها الألم، لتأخذ الوالدة على عاتقها إكمال ما تمناه الاب لابنته.
حتى عام 1980 حين شاركت صاحبة الـ19 عاما في برنامج المسابقات "بين المعاهد" بأغنية "أسأل عليا" لليلى مراد، وهي نفس الأغنية التي شاركت بها بعد ذلك بثلاثة سنين في برنامج الهواة "فن ومواهب"، وأحب الحكام صوتها وفازت بالجائزة الكبرى في النهائي يوم 23 يوليو 1983 بأداء مبهر ورائع لأغنية "الرضى والنور" لأم كلثوم، فانتبه لذلك عزالدين العياشي الذي احتضن موهبتها ولحن لها أول أغنياتها بعنوان "يا هوايا"، ثم قدمها في أول حفلة في مهرجان قرطاج بتونس، لتنضم بعدها إلى فرقة الاذاعة والتلفزة التونسية بقسم الأصوات وهناك تلتقي بالملحن عبد الرحمن العيادي الذي لحن 28 أغنية من إجمالي 30 أغنية قدمنهم في تونس خلال 10 سنوات من إحتراف الغناء.
حتى عام 1990 حين تدخل الحب للمرة الأولى في حياة ذكرى وأجبرها خلافها مع خطيبها الملحن عبدالرحمن العيادي الذي رفض ن يلحن لها غيره، أن تنضك إلى مجموعة "زخارف عربية " قبل الهجرة إلى ليبيا.
أغنية "حبيبي طمن فؤادي" من ألحان العيادي
http://www.youtube.com/watch?v=15k4w9YbLdU
في ليبيا يتعامل الصوت النادر صاحب المقان العالي مع مجموعة من كبار الملحنيين الليبين مثل محمد حسن، علي الكيلاني، عبد الله منصور، سليمان الترهوني، رمضان كازوز، خليفة الزليطني، عمر رمضان، و غيرهم، لتكون صاحبة الرصيد الأكبر من الالبومات باللهجة الليبية رغم بقائها لمدة 4 سنوات، إلا أنها حرصت على العودة من آن لأخر للغناء باللهجة الليبية، وقامت بالمشاركة في تأسيس سلسلة "رفاقة عمر" التراثية الرمضانية لمدة 16 عام متتالية، وكأن صاحب الصوت العريض، القادم من العصر الأندلسي يحمل وفاء تجاه تلك الفنون التراثية، يستطيع تحمل أمانتها وأمانة نقلها للعصر الحديث، صوت يشبه ألة زمن جاءت من الماضي.
اصدرت ذكرى العديد من الألبومات في ليبيا مثل "و بحرت"، و"شن درنالك"، "نفسي عزيزة" الذي كان آخر ألبوم ليبي صدر لها في 2003 وهو كلمات عبد الله منصور، وقد ربحت أغنية "نفسي عزيزة" جائزة أفضل أداء وكلمات في مهرجان شرم الشيخ بمصر.
أغنية "نفسي عزيزة" الفائزة في المهرجان
http://www.youtube.com/watch?v=b3ZMjXtEu3M
كان اللقاء مع الملحن هاني مهني طريق ذكرى للهجرة إلى مصر عام 1994 بعد 4 أعوام في ليبيا، لتنال مكانتها المستحقة وسط نجوم الأغنية العربية، حيث انتج لها مهنى ألبومين هما "وحياتي عندك" في سنة 1995 والذي نجح نجاحا ساحقا في الوطن العربي ووضع اسمها على قائمة النجوم الكبار، بعدها انتج لها ألبوم "أسهر مع سيرتك" سنة 1996 لكنه لم يلاقي النجاح المطلوب بسبب عدم توفير الدعاية اللازمة، وفي سنة 1997 صدر لها ألبوم من إنتاج "مبجاستار" يحمل اسم "الأسامي" ليعاود النجاح رسم ابتسامتها على وجهها مرة أخرى.
ثم أصدرت ألبوما من إنتاج "فنون الجزيرة" بعنوان "يانا" سنة 2000، وأخيرا ألبوم "يوم عليك" والذي صدر في 2003 قبل وفاتها بثلاثة أيام.
وكان صوت ذكرى هدفا خلال تلك الفترة لكل الملحنين الكبار في الوطن العربي، لتجسيد ألحانهم وتخليدها عبر صوت صار قادرا على أداء أكثر الألحان صعوبة ومنحها تأشيرة نحو أذن المستمع وقلبه.
كذلك قامت أيضاً بغناء العديد من الديوهات مع العديد من الفنانين العرب مثل طلال مداح في أغنية "ابتعد عني" وأبو بكر سالم في أغنية "يا مشغل التفكير" ومحمد عبده في أغنية "حلمنا الوردي" في سنة 2003، ومع الفنان عبد الله الرويشد في أغنية "مافقدتك" صدر بعد وفاتها اواخر 2007، والفنان غيهاب توفيق في أغنية "ولا عارف".
وفي نهاية نوفمبر 2013، وبعد قصة حب قصيرة انتهت بالزواج من رجل الأعمال المصري، حضر صوت ذكرى للمرة الأخيرة حين صرخت وهي تتلقى رصاص مسدس الحبيب، لتبدأ الفرق للمرة الأخيرة، بعيدة عن الوطن وبلد المهجر الأولى داخل مصر بلد الرحيل.
أغنية "ولاعارف" بصحبة إيهاب توفيق
http://www.youtube.com/watch?v=tzVwYH2Jvd0