12‏/01‏/2013

بيت من طين

تغيب شمس النهار عن تلك المنطقة من أراضي مدينة خان يونس الفلسطينية في قطاع غزة، تاركة خلفها صورة انتحلت ألوانها شخصية اللون الأصفر بفعل الزمان وتعاقب الفصول، لشهيد غادر الحياة في عملية استشهادية منذ عدة سنوات، يتأملها رجل عجوز نحتت السنون تجاعيد وجهه، وتركت خلفها أخاديد عميقة بعددها. تنهد العجوز ملقية النظرة الأخيرة على صورة ولده الشهيد التي تختفي ملامحها شيئاً فشيء لكنها باقية في ذاكرته، قبل أن يعود في اتجاه بيته الصغير داخل مزرعة الزيتون التي يملكها في المنطقة العازلة على الحدود بين مدينته والكيان الصهيوني.
انتهى من اشعال النيران في بعض الحطب أمام بعض الحطام الأسمنتي لأطلال تنم عن وجود منزل في نفس المكان، هدمه القصف الصهيوني منذ عدة ليال مضت فيما سمي بعملية "الرصاص المصبوب"، قبل أن يعود الهدوء للمنطقة ويتفق الساسة بعض الاتفاقيات التي يعقبها العديد من الابتسامات العريضة أمام الشاشات، وكل جانب يعلن انتصاره في المعركة.
قطع صوت غليان الماء المخلوط بورق الشاي حبل افكاره، فاعتدل ليصبه، مستمتعا بمذاقه وحرارته للتغلب على برودة الجو، ثم انهمك في حوار خاص مع الحطام، الذي ظل يتحسسه بيده حتى راح في النوم متدثراً ببطانية صوفية قديمة، ليكمل أحلامه بجوار ذلك الحائط الذي صار تراباً بعد أن كان جزء من غرفة بناته، ولدن فيها وكبرن بداخلها، ثم تزوجت منهن من تزوجت ورحلت الباقيات إلى بيت أخيه حتى ينتهي من اعادة بناء منزله.
وفي الصباح، مع عودة الشمس لتشرق على صورة الشهيد لتزيدها اصفراراً، استيقظ العجوز ليبدأ مبكرا صب الطين الطري في القوالب الخشبية المستطيلة التي صنعها بيده من بعض أخشاب المنزل، ثم تركها في الشمس لتجف وذهب لزيارة عائلته في غرب المدينة.
ومع الغروب الثاني عاد الرجل مع صغيريه الذكور، ليبدأ في بناء منزل من الطوب النيئ في نفس مكان البيت القديم، بعد إزالة الركام الأسمنتي.
انشغل الشاب الأكبر بالبناء مع والده بينما تأفف الصغير ناظراً إلى المباني الحديثة التي بنتها وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" لجيرانهم بعد أن طالتهم يد الكيان، تساءل في داخله، لماذا رفض والدي أن يستفيد بوضعه وتبني الوكالة المنزل.
وقبل أن تغادر عيناه منزل الجار، وضع والده كف يده على كتفه قائلاً : الدار ما هي حيطان، الدار زي المقاومة لازم تفضل باقية مهما انكسرت، وبايدينا مش بايد غريب.

ليست هناك تعليقات: