11‏/09‏/2012

نجيب محفوظ.. نبي هذا العصر الذي لم يُبعث

"رأيتني سائرا في الطريق في الهزيع الأخير من الليل فترامى إلى سمعي صوت جميل وهو يغني.. زوروني كل سنة مرة.. التفت فرأيت شخصا ملتفا في ملاءة تغطيه من الرأس إلى القدمين فنظرت إليه باستطلاع شديد. رفع الملاءة عن نصفه الأعلى فإذا هو هيكل عظمي فتراجعت مذعورا. ورجعت وأنا أتلفت والصوت الجميل يطارني وهو يغني.. زوروني كل سنة مرة."

أخر ما كتبه الراحل نجيب محفوظ في كتابه الأخير "أحلام فترة النقاهة"، وها نحن نزورك يا مولانا في ذكرى وداعك، واعذرنا على التقصير الذي اعتدته منا يا نبي العصر الذي لم يبعث.
حاربوك كثيراً، كما يحارب أنبياء التغيير في كل زمان ومكان، اتهمك الأزهر عام 59 بإهانة الدين الإسلامي والأنبياء في رواية "أولاد حارتنا"، واتهمتك كل التيارات السياسية المعارضة عام 78 بالزندقة الوطنية لأنك باركت رحلة السادات إلى القدس، وحتى عندما أعطالك العالم بعض ما تستحق ومنحك جائزة "نوبل" رماك شيوخ التطرف بالكفر وأخرجوك من الملة ليحاول بعض صبيتهم اغتيالك دون أن ينير رأسه حرفاً من حروفك.
                            *******
يتداول تابعوك بانبهار أحاديث شيخك العالم عبد ربه التائه في "أصداء السيرة الذاتية"، يدهشهم قدرتك المعجزة في كشف المستقبل ووصفه، دون أن يلحظوا أن لا مستقبل لأمة تحيا بعقل الماضي، وأن ثورتك في الأساس جاءت من أجل التغيير، يشير إليهم حامل أفكارك عبد ربه التائه ويقول " حب الدنيا آية من آيات الشكر , و دليل ولع بكل جميل , و علامة من علامات الصبر ".
ويتمتم خاتماً ليصف إياك  رجل نبيل و ما أندر الرجال النبلاء . أبى رغم طعونه في العمر أن يقلع عن الحب حتى هلك."
هلكت يا عمنا عاشقاً للوطن الذي يكفرك حكامه الآن ويتهمونك بالزندقة والتحريض على الفجور، وكأنك هذه المرة وقفت معتصماً بالجبل، تاركاً أسوأ ما فينا ليركبون السفينة ويبحرون، فما لنا في هذا الزمان إلا الغرق.
                           *******
لم يفهم الكثيرون السبب في إصرار نجيب محفوظ على عدم كتابة سيناريو لأي من رواياته، على الرغم من كتابته السيناريو والحوار للعديد من روايات الأديب إحسان عبد القدوس وأشهرها فيلم أنا حرة، وكذلك اعتبر البعض تصريحه الشهير بأنه غير مسئول عن الأفلام المأخوذة من رواياته، على أنه مجرد تنصل من الأفلام التي لا تقدم نفس الرؤية التي في نص الرواية، وهو خلاف قديم ما بين المكتوب والمرئي، والذي ينتصر فيه عادة النص المكتوب كرواية لأنه بلا حدود للإبداع، ولم ينتصر النص المرئي إلا في حالات قليلة جدا مثل فيلم الأرض المأخوذ عن رواية لعبد الرحمن الشرقاوي، وفيلم شيء من الخوف المأخوذ عن رواية لثروت أباظة، لكن الحقيقة أن محفوظ كان يكتب نصاً متعدد الرؤى والأبعاد، اختار صانعو الأفلام رؤية ومستوى واحد منها ليقدموه في أفلامهم المأخوذة من رواياته مما أفقدها الكثير من قيمتها.
وهو ما اضطر عباقرة هذا العصر لأن يحكموا على أعمال محفوظ من أفلام حسن الإمام، وهو الأمر المقزز الذي يشير إلى كم الجهل المخيف الذي يعتلي موجة الدين هذه الأيام.
سيدي نجيب محفوظ يا نبي العصر الذي لم يبعث رحلت ولم تصل رسالتك، وحتى تصل يكفينا منها الآن قول عبد ربه التائه ""اللهم منّ عليه بحسن الختام , و هو العشق ."


ليست هناك تعليقات: