الموسيقى هي الفن الوحيد غير المرئي، والذي لا نستخدم سوى حاسة السمع للاستمتاع به والتفاعل معه، مما جعله الأقرب إلى الروح، حيث تقل مساحات الروحانية كلما زادت الوسائط، لكن الموسيقى وحدها تمر إلى الروح وتحتضنها صاعدة بها إلى آفاق جديدة في سلاسة مبهرة، قد تصل إلى دفع الجسد إلى التمايل والرقص على أنغامها في توحد مدهش ومثير عن طبيعة ذلك التأثير.
الموسيقى هي لغة التعبير العالمية، والموسيقى هي اللغة التي نسمعها في كل شيء في الحياة في الطبيعة في المنزل من التليفزيون والكمبيوتر وفى العمل، في رنات التليفون المحمول، في وسائل المواصلات، هي كل تلك الأصوات المتناغمة حولنا.
وما من موسيقى لم ترددها الطبيعة يوما ما، وما من صوت إلا ومارسته الطبيعة منذ قديم الأزل، وكأنها دائرة مغلقة لا تفنى فيها الأصوت ولا تستحدث من العدم، وكأن كل صوت نسمعه الأن هو مجرد صدى لشخص ما أو حدث ما في الزمن البعيد، وتبقى تلك الأصوت الخالدة في نفوسنا وكأنها مشتقة من الطبيعة، كأن يحكون في الأثر أن الله اشتق صوت الرعد وأم كلثوم من نفس المادة مثلا ثم أمرها بالفناء، فاستمر صوت الرعد ولم يتكرر صوت «ثومة».
وتقول الأسطورة أن صوت محمد قنديل تم نحته من شروق الشمس براق وساطع ودافيء، لا يغيب أبدا، أما صوت محمد عبدالوهاب، فتم اختراعه على يد صاحب ماركة «رولزرويس» ولم يتم اكتشافه خالصا في الطبيعة، لأنه يبدو وكأن كل تفاصيله صنعت يدويا حسب رغبة صاحبه الشخصية.
وكان صوت أسمهان يوما ما لطائر الفينيق الأسطوري، بكل ما يحويه من قوة، بينما اشتق صوت محمد فوزي من رعشة أوراق الشجر لحظة سقوط المطر، لأنه صوت مفعم بالبهجة، مليء بالحياة.
وجاء صوت عبدالحليم حافظ من لحظة تمر فيها نسمة العصاري في ليلة صيفية، رقيقة ضعيفة لكنها مؤثرة متأثرة، لأنه إحساسا تجسد في حنجرة إنسان.
وعندما صدح أول عصفور على وجه الأرض، ذهب صوته ليسكن حنجرة شادية، لتبقى «الدلوعة» عصفور كناريا الغناء العربي، ومن بائع جائل في عصر المماليك، نادى على بضاعته فسكن صدى صوته روح وردة، بكل ما يحمله صوتها من قوة، بينما هربت نغمة «هارب» فرعوني لتكون نجاة الصغيرة، برقة صوتها وحنانه وانتمائه لذلك الوطن.
ومن خرير شلال هادر خرجت فايزة أحمد، بكل ما لدى الشلال من اندفاع وتدفق، ومن ليلة عيد سكنت روح طفل سعيد خرجت صباح، بكل تلك الشاقوة الممزوجة بالسعادة، ومن هزة عود وتر أول ربابة تم تصنيعها جاء صوت محمد العزبي، محملا بكل قوة تراثنا وعمقه.
ويعرف عن صوت على الحجار أنه صهيل أول حصان مروض على سطح الأرض، بما لدى الحصان من مرونة وجمال وطلاقة، ولكن صوت منير كان زفرة صانع فخار نوبي في لحظة تركيز، حاملا ذاك التميز الآتي من الجنوب.
وكأن العود إذا غنى كان فريد الأطرش، أعظم من عزف عليه وكأنهما توحدا، وإذا قررت القهوة أن يكون لها صوت كانت فيروز، بكل ما يحويه صوت فيروز من مزاج وروعة، ومن بين أوتار القانون نشأ مدحت صالح، بشرقية صوته وقدرته اللامحدودة على معانقة النغم.
وعندما غنى الجبل ظهرت حنجرة وديع الصافي، صوت الجبل بكل طبيعته القوية، وعندما قررت الأرض لحظة الانبات أن تعبر عن نفسها جاء صباح فخري بكل ما لدى الأرض من طاقة لا تنضب ولا تنتهي.
حتى الأصوات المنفرة لها أصل في تلك الطبيعة، وربما جاءت من لحظة فوضى، أو صرخة منتشي ظالم، أو بهجة غير صاحب حق .
اتركوا أرواحكم للغناء والموسيقى، لا تعتبروها غذاء للروح فهي لا تحتاج لغذاء، بل عانقوها، وارسموها، واطربوا لها وبها، وعيشوها، علموها لأولادكم بكل ما تحويه من نغمات أو أصوات، فحين تألف الأرواح الموسيقى تتعلم حب الحياة، وما أشد ما نحتاج إلى تعلم حب الحياة مرة أخرى في مصر هذه الأيام.
يعود المخرج ألكسندر باين للطريق مرة أخرى، فبعد فيلم "About Schmidt " عام 2002 الذي يدور حول أرمل مشاكس لعب دوره جاك نيكلسون، يطارد ابنته في أنحاء الولايات المتحدة عبر دروبها وطرقها لتخريب زفافها، وفيلم "Sideways " والذي يتناول فيه مادار بين الروائي بول جياماتي ومتذوق النبيذ في جولة في مزارع العنب في كاليفورنيا في محاولة للاستشفاء من كسر القلب، وكأن "باين" يجد نفسه داخل تلك السيارات المتنقلة من ولاية لأخرى في رحلة بحث عن شيء ما، يقدم هذه المرة في فيلم "nebraska" القدير بروس ديرن، في دور رجل عجوز مدمن للكحول مصاب بالزهايمر يخوض رحلة مع ابنه الشاب من ولاية "مونتانا" حتى "نبراسكا" بحثا عن جائزة وهمية، في رحلة يدرك الابن الشاب عبثيتها إلا أنها يخوضها من أجل والده.
يستخدم "باين" الأبيض والاسود ويختار الثمانينات زمنا لأحداث فيلمه حتى تكون مناسبة للحبكة الدرامية بعيدا عن عصر الإنترنت، ويستعرض خلال الرحلة في لقطات واسعة المزارع والحيوانات بداخلها وعلامات الطريق والفنادق الصغيرة (الموتيلات) والكنائس دون مبرر حقيقي لاختفاء الالوان.
ومن خلال مدينة صغيرة شهدت نشأة الأب وبداية مغامرته في الحياة وزواجه في "نبراسكا" قبل رحيله إلى ولاية "مونتانا" تستقر الرحلة قبل نهايتها بالاب ونجله في منزل عمه، حيث يعيد خلال 3 أيام مد الحبال واعادة الحياة لعلاقاته بأهله وأهل مدينته كبار السن الذين يتذكرونه، بعدما ظن الجميع بالفعل أن الميكانيكي المفلس الذي غادر بلدتهم منذ أعوام طويلة كسب مليون دولار في اليانصيب وصار ثريا.
ومن خلال مفارقة تجمع الأسرة الصغيرة مرة أخرى في تلك القرية، ورغبة الأهل والأصدقاء القدامى في استغلال هذا الثراء المفاجيء لـ"وودي" الأب الذي يلعب دوره بروس ديرن يكشف الفيلم مجموعة من الطبائع الإنسانية الوضيعة، والتي يسلط عليها الضوء ويجعلها أكثر بشاعة هو ذلك الخرف الذي يواجهها به الرجل المريض بالخرف الذين يظنونه ثريا.
وفي أحد اروع أدواره يعود بروس ديرن الذي عمل من قبل مع العظيم الراحل هيتشكوك ليقدم دورا يليق بمشواره السينمائي، حيث يتقمص شخصية العجوز المدمن المصاب بالخرف، والذي ذاق الأمرين من زوجة سليطة تشيع عنه ماهو عكس حقيقته، والذي تقتصر أحلامه على اقتناء شاحنة جديدة و"كمبورسور" - ضاغط هواء - لاستخدامه في الطلاء وترك مال لولديه حتى يرثاه لأنه يرى نفسه والدا مقصرا، وتظهر تعبيرات "ديرن" المتفاجئة والمبهمة واللامبالية في كثير من المشاهد المعنى المقصود تماما، ليستحق الترشح عن دوره لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل.
ربما يبدو فيلما مدته 115 دقيقة باللونين الأبيض والاسود وأغلب أبطاله قد تجاوزوا الـ60 عاما مملا للغاية للبعض، ربما لا يصيب المشاهدة بالحماسة مع إيقاعه الهاديء الذي يليق بحلم رجل عجوز مريض، لكنه فيلم أخر يضرب فيه ألكسندر باين من جديد لكشف تلك العلاقات الإنسانية الحقيقة التي تتجاوزها السينما الأمريكية الحالية، وخاصة تلك المشاعر المختلطة بين الاباء والابناء، والتي يغزلها بروعة عبر تفاصيل هذا الفيلم، مثل هذا المشهد الذي يسرق فيه الإبنان مزرعة أحد أصدقاء والدهما القدامى بطريقة طفولية واضحة فقط من أجل الانقتام، واكتشاف هذا الابن الأصغر لحقيقة والده بنهاية تلك الرحلة العبثية التي بلغت 750 ميلا، وقرر أن يحقق له أحلامه البسيطة منكرا ذاته فقط من أجل المشاعر.
فيلم nebraska ليس من تلك الافلام القادرة على ابهار المشاهد، على الرغم من ترشحه لجائزة الأوسكار أفضل فيلم، لكنه يبقى أحد تلك الافلام التي تؤكد عبارة الشاعر الراحل محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"
تقول القاعدة السينمائية أنه عندما تقدم حكاية تقليدية فعليك أن تتناولها بشكل مختلف أي بطرح جديد، وإذا اضطررت إلى معالجتها بطريقة تقليدية فلابد أن تلجأ إلى حل إخراجي يضعك خارج استهلاك حكاية في الأصل مستهلكة.
وهو ما لم يفعله ستيفن فريس مخرج فيلم "philomena" المرشح لجائزة الأوسكار أفضل فيلم، والذي تناول قصة أم فقدت ابنها داخل الدير منذ 50 عاما، ثم قررت البحث عنه بمساعدة صحفي ترك عمله كمساعد لرئيس الوزراء البريطاني أثر فضيحة ما ويبحث عن نجاح جديد بعد عودته لمهنته الأصلية.
يعرف المشاهد غالبا أن الأم ستجد ولدها، حيا أو ميتا، لكنها ستصل إليه، اكتفى الفيلم الذي يروي قصة حقيقية وقعت في بريطانيا بدايات العقد الماضي بسيناريو تقليدي، يتحرك في خط ردامي واحد ويصل إلى نقطة الذروة باكتشاف وفاة الابن في أمريكا مريضا بالإيدز في تسعينيات القرن الماضي، ويعود في نهايته إلى بريطانيا أو ايرلندا تحديدا حيث دفن الابن الذي حاول البحث عن والدته.
ومن خلال سذاجة الأم العجوز فقد الفيلم تلك المساحات العاطفية الممكنة لتلك الحالة، حيث بدت الأم دائما سعيدة ومبتسمة وفي حالة بهجة، حتى في أقصى لحظات حزنها عندما تتحدث مع نفسها، وهو ما أدته جودي دينيش ببراعة معتادة، إلا أن بناء الشخصية التي كتبها ستيف كوجان كاتب السيناريو وبطل الفيلم الذي يلعب دور الصحفي الذي يساعدها، لم يجعلا الدور أحد دوارها المميزة - على الرغم من ترشحها لجائزة الأوسكار أفضل ممثلة عن هذا الدور -، بل أفقدتها الكادرات المقربة للغاية جزء كبيرا من سحرها الخاص كممثلة قديرة حرص المخرج على وضع علامات تنصيص سينمائية حول مشاهد بكائها، وهو خطأ تكرر طيلة الفيلم دون مبرر درامي حقيقي.
بينما قدم ستيف كوجان دورا جيدا كتبه لنفسه بعناية، ونجح في تلك المشاهد المشتركة مع دينيش بكل تاريخها وقامتها الفنية في سرقة الكاميرا خلال مباراتهما التمثيلية معا.
في الحقيقة لا يزيد مستوى فيلم "philomena" عن مستوى تلك الحلقات التي قدمتها الراحلة فايزة واصف في برنامج "حياتي" في ثمانينات القرن الماضي، ويصعب اعتباره فيلما كبيرا، بل يقع في دائرة الافلام المتوسطة، ويثير ترشيحه للجائزة علامات استفهام عديدة حول معايير الترشح للأوسكار، بل وفوز الفيلم في مهرجاني "تورنتور" و"فينيسا".
لكن يبقى اهم ما في الفيلم هو فضح الممارسات غير الإنسانية التي تمارس ضد المراهقات في الأديرة التي تديرها الراهبات، والتي تصل إلى رفض اجراء عمليات قيصرية لهن عقابا على ممارسة الجنس، وزرع مفاهيم تعتبر الجنس ذنبا كبيرا يغضب الرب على فتيات بسيطات لم يلتحقن بالرهبنة، وكذلك تفريق أبنائهن عنهن وبيعهم عبر وسطاء إلى أثرياء في دولة أخرى بحثا عن المكسب المادي.
في النهاية قال المخرج الكبير داوود عبدالسيد في محاضرة عن صناعة السينما يوما ما : ليس هناك ما هو أهم من "حدوتة" ممتعة، يحصل المشاهد في نهايتها على نصيبه من المتعة، برسالة كانت أو بدون، بتجريب أو بدون، المهم أن تكون القصة ممتعة، وهو ما افتقده هذا الفيلم تماما بعدما ارهقه الاستهلاك.
اقتاد رجال المعلم هدهد الرجل الكفيف الذي حضر إليهم من أجل شراء نصيبه من "الكيف"، كما اعتاد منذ القبض على المعلم "هرم".
بمجرد وصوله إلى "الديلر" سلط الكشاف على وجهه واشار لأخر ، فأحاطا بالرجل وسحباه رغما عنه إلى حيث لا يدري، صرخ الشيخ حسني معترضا
- رايحين بيا على فين ياكفرة، أنا عارفكم وحاجيبكم.
وفي مكانه المفضل في بهو بيته شرقي الطراز جلس المعلم هدهد بجلبابه الابيض على مقعده الخشبي المطعم بالصدف والمبطن بريش النعام متأملاً ملامح الكهل الذي ألقى به صبيانه أمامه، بقامته الطويلة وقوة جسده الواضحة في عضلاته والتي لا تتناسب مع عاهته، وذلك الشارب الصغير الذي يجذب وجه الناظر إلى وجهه مع زوج العيون الذي فقد ضياء البصر وأجبر الرأس على الارتفاع والميل تجاه أحد الأذنين استرشادا بالصوت.
استمر الشيخ حسني في شكواه، بعدما تركه الرجلان وحيدا
- أنا فين يكونش الواد سليمان زعلان مني علشان الفسبا بتاعته، ولا الولية ام روايح سلطت عليا حد بعد ما فضحت الحتة كلها، الله يرحمك ياعم مجاهد قولتلي الحشيش حيضيعني وباينه ضيعني
ثم جلس مقرفصا يبكي في صمت، والمعلم هدهد صامت تماما يتأمله قبل أن يقول بصوته الجهوري
- بعت بيتك علشان الحشيش، بتبيع إيه دلوقتي يا شيخ حسني
انتفض الشيخ حسني واقفا بمجرد سماع الصوت، وأقترب في اتجاه صاحبه الذي قال بصوت عال آمر
- اقف مكانك لاحرق روحك، متقربش
أمسك الخوف بقدمي الشيخ حسني، فتوقف مكانه صامتا، فأعاد المعلم هدهد سؤاله
- بتبيع إيه يا شيخ حسني
هز الشيخ حسني رأسه وكأنه يسمع لحنا محببا قبل ان يقول
- الكيف هو الصاحب لما ميبقاش عندك صاحب، الكيف هو البصر لما تبقى لا مؤاخذة زيي ضرير، الكيف ساعة كمان بيبقى الأهل
ابتسم المعلم هدهد للمرة الأولى منذ رأى الشيخ حسني وقال
- أهو أنا بتاجر في الحشيش علشان اللي زيك، ومع إني كنت جايبك هنا علشان أقطع راسك علشان صبيي هرم اللي دخل السجن بسببك، بس حبيت اسمعك، أه في شغلتنا كل حاجة بالميزان، العدل أهم حاجة
نبتت ابتسامة ماكرة على وجه الشيخ حسني الذي وجه اذنه اليسرى تجاه الصوت قبل أن يقول ساخرا
- بس اليومين دول الحشيش صوابع يا مولانا ومن غير ميزان
نهض المعلم هدهد وغادر مقعده في اتجاه الشيخ حسني وهو يقول
- كل صنعة في البلد دي باظت، كل حاجة اتقل خيرها، والصبيان الجداد بهدلوا الزبون
ثم امسك بيد الشيخ حسني واقتاده لجلسة عربية توسطتها "قصعة" اشتعلت فيها "طربة" حشيش وسط الفحم لتعبأ المكان برائحته العطرية المميزة، استنشق الشيخ حسني الرائحة بمجرد دخوله وقال مبتهجا
- الله الله
ثم مال على دليله قائلا
- اسم الكريم إيه
- انا المعلم هدهد
ساعد المعلم الشيخ في الجلوس، ثم ناوله عودا واستلقى بجواره وقال
- لم تتكيف سمعنا حاجة
ابتسم الشيخ حسني ومع استنشاق الحديد بدا يداعب أوتار العود غائبا بداخلها وكأن روحه معلقة فيها قبل أن يقول
- زمان غير زماننا..مالناش فيه مكان..وخلاص صار أماننا..نستخبى م الفوقان
هز المعلم هدد رأسه مشيرا لاحد صبيانه الذين وقفوا على الباب للحراسة، اسرع تجاهه ومال بجسده ليسمع اوامره
- الحشيش بتاع الشيخ حسني يوصله البيت كل يوم من غير فلوس، نعتبره زي نسبة ذوي الاحتياجات الخاصة بتاعة الحكومة
انصرف الرجل مسرعا بينما أغمض المعلم هدهد عيونه والشيخ حسني يواصل الغناء
- حشيشنا ليه مزاج..حشيشنا ليه معلم..ياكيف الابتهاج..نسيتنا ازاي نتألم
ضحك المعلم هدهد بصوت عالي وهو يقول في نفسه
- ربنا يجعله في ميزان حسناتنا
الشخصيات
الشيخ حسني – فيلم «الكيت كات» - محمود عبدالعزيز
المعلم هدهد – فيلم «أرض الخوف» - حمدي غيث
اقترب المقدم عمر من مكتب اللواء عمر الاسيوطي وعدل من وضع هندامه متجاهلا التحية العسكرية التي أداه المجند المكلف بالحراسة عند الباب، ثم طرق الباب بيده ودخل شادا قامته مؤديا التحية العسكرية بحزم مبالغ فيه أمام قائده ورئيسه في العمل، بينما انبعثت موسيقى هادئة من أحد الاركان وعبأ الجو معطر صناعي برائحة الياسمين.
رفع اللواء عمر الاسيوطي عينيه دون ان يرفع رأسه عن الأوراق التي كان يقرأها ثم عاد بسرعة للقراءة متجاهلا التحية العسكرية التي أداها مرؤوسه، وقال
- فين سيد مرزوق يا سيادة المقدم
أجاب المقدم عمر مسرعا
- أنا كنت مكلف بالقبض على يوسف كمال يافندم مش سيد مرزوق
رفع اللواء عمر الاسيوطي رأسه بغضب وهو يشير بالقلم الذي في يده للمقدم الذي ظهر عليه القلق
- أنت مكلف بالقبض على سيد مرزوق يا سيادة المقدم
فتح المقدم فمه ليتكلم، فقاطعه اللواء مناديا
- يا فتحي
صمت المقدم عمر رغما عنه والتفت إلى الباب الذي فتح ودخل منه المخبر فتحي بابتسامته اللزجة وعيونه التي انكسرت بفعل الاستجداء، وذلك البالطو البني الباهت الذي استجاب لعوامل الزمن، وفي يده "الخرزانة" التي لا تفارقه ابدا، وصرخ محاولا اظهار الانضباط
- اؤمر يافندم
سأله اللواء عمر الاسيوطي
- أخبار تقارير مراقبة سيد مرزوق إيه يا فتحي
- خمس تقارير في اليوم، وتقرير خاص كل يوم أحد يافندم
- ويوسف كمال بس اللي مصدقه
- لا دول ناس كتير يافندم
- طيب قول لسيادة المقدم
نظر المخبر فتحي للمقدم عمر وكأنه يلحظ وجوده للمرة الأولى في غرفة المكتب ثم قال
- الناس مصدقة إن سيد مرزوق ممكن يحقق أحلامها، الناس كمان بتصدق إنه ممكن يرحم خطاياها، الناس متخيلة إنه حيكافئها أو يعاقبها على عمايلهم الحلوة والسودة
اقتحمت قطرة عرق عين المقدم عمر رغم الجو البار للغرفة بفضل المكيف، عجز عن مسحهان لكنه فقط أغنض عينه التي وكأنها احترقت أثر الملوحةن وتدلى فكه رغما عنه قبل أن يحاول "لملمة" روحه المبعثرة بسبب الخوف والقلق، وقال مخاطبا قائده
- تمام يافندم ، خلال 24 ساعة يكون في الحجز واعترف
أشار اللواء للمخبر حتى يكمل كلامه، فقال فورا
- هو تقريبا موجود في كل مكان، ومش موجود خالص
اعتدل المقدم عمر في وقفته ليواجه المخبر سائلا
- يعني إيه اللي أنت بتقوله ده
أكمل فتحي وكأنه لم يسمع سؤال المقدم
- محدش حيعترف إنه شافه، ومفيش دليل على وجوده في مكان ما، ناس قليلين بس اللي عندهم الدليل ده
رفع المقدم عمر صوته محاولا مقاطعة المخبر الذي يتحدث وكأنه يرتل ما يحفظ
- تعرف مين الناس دول
ابتسم اللواء عمر الاسيوطي للمرة الأولى قبل أن يقول مقاطعا مرؤوسيه
- يا سيادة المقدم خليك معايا، الناس ممكن تحميه، بس الناس بتخاف من القوة الظاهرة، وإحنا الداخلية القوة الظاهرة، لو عايز تقبض عليه حتى من قلوب الناس تقدر بس بشرط إنك تخوفهم اكتر، لدرجة إنهم بس يتمنوا الحياة.
هز المقدم عمر راسه مؤمنا على الكلام
- تمام يافندم
أشار لهما اللواء بالإنصراف فأديا التحية العسكرية وانصرفا بينما كان اذان العصر يتسلل من نافذة مغلقة في مكتب اللواء عمر الاسيوطي، ليختلط بالموسيقى الهادئة التي عادت لتملأ فراغ الصمت بعد رحيل المقدم والمخبر.
الشخصيات :
اللواء عمر الأسيوطي – فيلم «أرض الخوف» - عزت أبوعوف
المقدم عمر – فيلم «البحث عن سيد مرزوق» - شوقي شامخ
المخبر فتحي – فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» - صلاح عبدالله
يتحسس "شريف المرجوشي" خطواته حريصا على عدم إصدار أي صوت وهو يقترب من تلك الشقة التي قرر سرقتها في الأسكندرية، تضايقه عينه العاجزة عند محاولة استخدام "الطفاشة" لفتح الباب يسب "سليم" في سره، ثم يبتسم مع استسلام "الكالون"، يفتح الباب بهدوء وهو يقول
- بسم الله الرحمن الرحيم
يتأمل اثاث الشقة الراقي الذي ترك الزمن عليه اثاره، صالون "كلاسيك" ذهبي ينتمي لسبعينيات القرن الماضي، ومجموعة من الوسائد العربية ملقاة على الأرض بإهمال وحولها مجموعة كبيرة من الكتب المفتوحة والمتناثرة بطريقة عجيبة، يقترب بهدوء ويمسك أحدها قائلا في سره
- كتب تاني، هو أنا موعود
يعود إلى صالة المنزل التي احتلتها منضدة "سفرة" قديمة متجها إلى تلك "الطرقة" المفضية إلى شباك يطل على البحر، يلقي نظرة خاطفة متأملا أضواء السيارات المارة على الكورنيش والتي انعكست على الزجاج "الموارب" لشباك تلك الطرقة.
يفتح باب غرفة النوم بهدوء شديد يفاجئه جسد الشاب النائم على فراشه باستغراق عميق، يرتد خطوة للخلف مفزوعا وهو يقول في نفسه
- جه امتى ده أنا بقالي يومين مراقب الشقة من ساعة ما راح يصطاد ومرجعش
يعيد تأمل ملامح النائم ذو البشرة السمراء والشعر المجعد والوجه الدائري، تدهشه تلك الإبتسامة العجيبة على وجهه، يقترب من الفراش بهدوء، تخبره أنفاس النائم الهادئة الرتيبة المنتظمة أن صاحبها غارق تماما في نومه، يلقي نظرة سريعة على الغرفة بحثا عما غلا ثمنه وخف وزنه، فلا يجد سوى جهاز "كاسيت" مزدوج، يحمله في هدوء ويغادر الغرفة بحرص شديد مغلقا الباب خلفه.
يعود إلى الصالون ليفتش ملابس صاحب الشقة المعلقة على بعض المقاعد بحثا عن النقود، يتعثر في كتاب كبير بلغة لم يرها من قبل، يسقط على الأرض محدثا ضجة عجز عن تلافيها، يجد جوار رأسه زجاجة بداخلها ورقة ملفوفة، يسب نفسه ويعيد سب الكتب، ثم يستعيذ بالله محاولا النهوض قبل أن يستيقظ صاحب الشقة.
وقبل أن يقف على قدميه يجد الشاب ممسكا بكتفه وعلى وجهه ملامح غضب شديد، شعر المرجوشي أن حتى عينه العاجزة شعرت به.
تحدث الشاب "متهتها" بطريقة أدهشت اللص
- أنت بتسرق إيه ياحمار، مفيش حاجة في الشقة
ثم التفت إلى جهاز "الكاسيت" الملقى بجوار اللص الواقع على الأرض، وأكمل بنفس التهتهة مشيرا إلى الجهاز
- وإيه اللي جاب الكاسيت ده هنا، انا رميته امبارح بره
يزيح شريف المرجوشي يدا الشاب التي ارتخت بفعل الإشارة ويقول وهو يحاول النهوض
- وحد الله يا عم، ده كان في أوضتك، انت تلاقيك استغفر الله كنت شارب، أنت اسمك إيه
- يحيى، وعلى فكرة نا معييش غير 10 جنيه، لو عايزها خدها
التقط المرجوشي الزجاجة التي تحوي الرسالة وهو يقول
- لا ياعم أنا راجل أعرف ربنا برضو
قاطعه يحيى مختطفا الزجاجة
- مالكش دعوة بدي
- هي إيه دي
- رسالة بلغة مش معروفة لقيتها جاية من البحر
واشار إلى الكتب المتناثرة قائلا
- وحاولت اترجمها بكل اللغات دي ، وسألت ناس من حنسيات مختلفة وبرضو ملقتش حد عارف
جلس شريف على المقعد الاقرب له بهدوء تعجب له هو نفسه وهو يقول
- أنا مش بعرف اقرا القرأن بس بمجرد ما بسمعه بفهمه
جلس يحي بجواره وهو يخرج الورقة من الزجاجة قائلا
- بس كمان محدش عارف يقراها
ثم فردها امام اللص شريف المرجوشي الذي مال براسه حتى تواجه عينه السليمة تلك الرسالة رغم عجزه عن القراءة ثم قال وهو يشيح براسه
- قطعها يا يحي، دي مش بادئة ببسم الله الرحمن الرحيم، أنا مبعرفش أقرا بس عارف شكلها
التصق يحيى خائفا بيد المقعد مبتعدا قدر الإمكان عن شريف وهو يقول
- أنت حمار مش فاهم حاجة
نهض شريف المرجوشي مغادرا الشقة وهو يقول
- كلام ربنا لما بعته الناس مفهمتوش وكفرت بيه، وبعد كده أمنت
تأمل يحيى الرسالة بشغف شديد متجاهلا كلام المرجوشي الذي فتح باب الشقة
- وخد بالك أنا راجع تاني، وحسرق الرسالة دي وححرقها، واسيبلك مكانها مصحف يمكن تفهم
ومع صوت قفل الباب كان يحيى وللمرة الأولى يدرك معنى الرسالة وفحواها.
الشخصيات
شريف المرجوشي – فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» - شعبان عبدالرحيم
يحيى – فيلم «رسائل البحر» - آسر ياسين
سعادة غامرة شعرت بها عندما بدأ تصوير فيلم "لامؤاخذة" هذا الفيلم الذي قرأت السيناريو الخاص به منذ حوالي 4 سنوات، وخضت حملة ضد الرقابة التي رفضت الموافقة عليه، سعادة حاولت تجنب تأثيرها وأنا أشاهد الفيلم الروائي الثالث للمخرج عمرو سلامة، ذلك الفيلم الذي يحطم "تابو" حقيقي صنعه المصريون منذ عشرات السنين حول العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في هذا الوطن.
وبرقابة ذاتية وخفة مقصودة، تشبه تلك "الطبطبة" على جرح مؤلم قدم سلامة فيلم "لامؤاخذة" عن هذا الطفل المسيحي الذي يتعرض لظروف ما تضطره إلى اخفاء ديانته داخل مدرسته الجديدة التي انتقل لها بسبب ظروف والدته المادية، وبصبغة كوميدية ارادها صانع الفيلم وقصدها من أجل مناقشة قضية شائكة للغاية، اختار أن يكوني راوي الفيلم هو الفنان أحمد حلمي، في تأثير مباشر على المشاهد، لتاكيد تلك الخفة، ومن خلال عالم الأطفال البريء صاحب الانفعالات المباشرة كشف الفيلم ذلك التمييز الذي يتعرض له أقباط مصر داخل المجتمع.
وقد وضع الفيلم مشاهديه في تلك الحالة منذ اللحظة الولى عبر لقطات "فوتو مونتاج" سريعة وخفيفة وتعليق الرواي الساخر، وطريقة الوفاة الكوميدية لوالد الطفل والذي لعب دوره هاني عادل، وقد أحسن صناع الفيلم صنعا بتوقف الراوي عن الشرح أو التدخل في أحداث الفيلم بعد بداياته.
وربما تبدو مناقشة قضية بمثل هذا الثقل من خلال فيلم "لايت كوميدي" أمرا مثيرا للدهشة، ومحاولة محفوفة بالخطر، إلا أن عمرو سلامة نجح للغاية في تجاوزها وتقديم فيلم مهم، لولا بعض تجاوزاته الدرامية نتيجة حذره الداخلي لكان أحد أهم أفلام السينما المصرية.
وبسيناريو رشيق سقط في بعض التجاوزات مثل عدم وجود مبرر للتحول الشخصي لوالدة الطفل من انسانة غير ملتزمة دينيا إلى العكس نتيجة زيارة واحدة للكنيسة، أو الانتقال لمدرسة حكومية قحة، مع وجود مدارس تجريبية أفضل في المستوى، طرح سلامة بـ"تكنيك" اخراجي متميز للغاية، و"كاستنج" يعد البطل الرئيسي للفيلم، سؤالا مهما حول السبب الحقيقي للرقابة في رفض هذا سينارية هذا الفيلم أربعة مرات من قبل.
أما على مستوى التمثيل وبفضل "الكاستنج" كما ذكرت من قبل يقدم الفيلم مجموعة متميزة للغاية من الأطفال مثل أحمد داش بطل الفيلم وصديقه معاذ نبيل الطفل الذي قام بدور مؤمن، وكذلك بلطجي الفصل "علي علي علي"، بينما أدت كندة علوش دورها كما يجب في ظل الشخصية السطحية التي قدمتها، بينما تألق كلا من سامية أسعد وبيومي فؤاد كالعادة، ومعهما طاقم المدرسين بأكمله.
ويعيد اسلام عبدالسميع تقديم نفسه من جديد بعد فيلم "إبراهيم الأبيض" كمدير تصوير مبشر للغاية، قدم صورة مختلفة وجميلة تليق ببراءة أحداث الفيلم وتناولها.
وكذلك قدم هاني عادل أحد أفضل موسيقاه التصويرية خلال مشواره الفني، وتبقى مساحة دوره التمثيلي الصغيرة إحدى حسنات الفيلم.
فيلم "لامؤاخذة" يملك تلك الوصفة التي أطلق عليها يوما المخرج الكبير داوود عبدالسيد "الحدوتة الحلوة"، محملا بالكثير من المتعة، التي ترددها تلك الضحكات التي تزاحمت في قاعة العرض، ونقلت مخرج الفيلم وكاتبه إلى مكان أخر في قفزة جيدة للغاية انتظارا للقادم، وسمحت لبعض الأفكار التي تم كبتها أن تخرج للنور بعيدا عن رقابة احتلتها البيروقراطية العقيمة واستحقت من أجل مثل هذا الفيلم صفرا كبيرا.
3 أيام تجتمع فيها عائلة الأديب المغمور "بيفرلي يستون" لحضور جنازته بعد انتحاره تاركا زوجته مدمنة المهدئات "فيلوليت" التي لعبت دورها الفنانة ميريل ستريب مع خادمة من السكان الأصليين للبلاد في ولاية أوكلاهوما وظفها قبل رحيله بيوم واحد.
3 بنات متزوجة ومخطوبة وعازبة، يعانين من مشكلات مجتمعهن التي تواجه كل واحدة منهن على حدة، واجتماع اضطر إليه الجميع وفقا للتقاليد رغم كراهية كلا منهن للانتماء لهذا المنزل، والذي يعودن إليه ويواجهن انحراف مزاج الأم نتيجة الإدمان والقسوة المفرطة بعد تركها وحيدة دون أي اتصال.
تلك هي تفاصيل رواية " آغسطس: مقاطعة أوسيدج " الفائزة بجائزة "بوليتزر" للروائي "تريسي ليتس" والتي حولها المخرج "جون ويلز" إلى فيلم سينمائي ترشحت عنه ميريل ستريب - كما اعتادت كلما وقفت أمام الكاميرا - لجائزة افضل ممثلة في الأوسكار، وكذلك جوليا روبرتس لجائزة أضل ممثلة مساعدة.
وينتمي الفيلم لنوعية الكوميديا السوداء، تبدأ باختفاء الشاعر مدمن الكحول واستدعاء بناته واكتشاف وفاته منتحرا، ويدور صراع بين الأم وابنتها الكبرى قوية الشخصية التعيسة التي تشبه والدتها كثيرا حول إدارة الأزمة التي يمر بها المنزل، في وجود اختها اللاهية المخطوبة لرجل آفاق، واختهما الصغرى التي ظلت بجوار والديها حتى تخطت الأربعين، ومع حرص المخرج على استعراض الولاية المقفرة شديدة الحرارة، التي يذوب فيها كل شيء إلا الخلافات العميقة التي ولدت منذ زمن بعيد.
ينجح المخرج في الحفاظ على روح الرواية التي تحولت من قبل إلى مسرحية ساخرة عبر تشريح الشخصيات واظهار نقائصها البشرية من خلال زوج البنت الكبرى المرتبط بفتاة مراهقة ترك من أجلها زوجته، والم تلك الزوجة التي لعبت دورها جوليا روبرتس وجنوحها للتجاهل من أجل أن تبقى قوية، وانفصال الأخت الوسطة عن واقع عائلتها وتعلقها برجل جديد كل عام يحقق أحلامها، وحرص الأخت الصغيرة على اخفاء اصابتها المسبقة بسرطان الرحم واستئصاله، وتلك الخالة السمينة قوية الشخصية وزوجها العاشق لابنه ضعيف الشخصية الذي تضطهده أمه، والأم التي تعرضت لطفولة قاسية للغاية وحادثة خيانة بعد الزواج أفقدتها سلامها الروحي، في شبكة علاقات إنسانية معقدة للغاية، تكشف مدى ضعف العلاقات الإنسانية لحظات المواجهة وما يعقبها، وقدرة التجاهل والتغاضي عن الابقاء عليها وكأنها شبكة عنكبوت.
وبأداء يشبه أداء آلهة الأوليمب تقدم ميريل ستريب أحدث أدوارها لتلك الشخصية المدمنة القاسية التي تواجه الكل بالحقيقة بلا مبالاة لنتيجتها، الباكية الضاحكة في آن واحد في دور أشك أن قارئه كان يتواني للحظة عن ترشيحها لتقديمه، والتي يتمنى المشاهد إلا تختفي من على الشاشة، وألا ينتهي الفيلم استمتاعا بقدرتها الفائقة على اضحاكه واجباره على البكاء في نفس ذات اللحظة.
واداء مبهر للرائعة الأخرى جوليا روبرتس، التي اعتبرت الوقوف أمام ميريل ستريب رهبة ومجهود، بذلته واستحقت أن تصل إلى القمة من خلال تلك المشاهد التي وقفت فيها ندا لربة التمثيل.
ويكفي مخرج الفيلم الذي اضطر طبقا لطبيعة الرواية أن تكون 90% من مشاهد الفيلم تصوير داخلي، ذلك المشهد البديع للمعركة القصيرة بين الأم "فيلويت" والبنت الكبرى "بربارا" لانتزاع الحبوب المهدئة من يدها على منضدة الغداء، والتكوين الرائع للمشهد الذي جعله منتج الفيلم "افيشا" له، حيث بدأ والأسرة ملتفة حول غداء بعد العزاء وانتهى والأم على الأرض تبكي من الإهانة بينما تحتضنها الخالة ويلتف الأشخاص حولها بمسافات متفاوتة بينما وقفت الكبرى في المنتصف حيث القوة والقدرة صارخة والرجال في الخلفية منزعجين في وضع تأهب، وكأنه قرر أن يختصر الفيلم بأكمله في مشهد.
فيلم august osage county أحد تلك الأفلام العظيمة التي تكشف النفس البشرية، والتي قد تمر مرور الكرام على الكثيرين، لكنه يترك في النفس ذلك الاثر الذي تتركه لحظة كشف حقيقة ما أمام عيوننا العاجزة بارادتها عن رؤية الحقيقة، تلك اللحظة التي تتلفت فيها حولك لتتأكد أن أحدا لا يراك.
كثيرا ما سألت نفسي لماذا أخرج يوسف شاهين فيلما مثل "ودعت حبك" من تأليف السيد بدير، وبطولة شادية وفريد الأطرش واحمد رمزي وعبدالسلام النابلسي، وبعشرات الأجوبة بقى لدي يقين واحد أتجاوز به ضيق أسئلتي، أن هذا مسموح به في سن الثلاثين، حيث كان عمر "جو" المختلف دائما حينئذ 30 عاما فقط، ويحاول أن يجد له مكانا على الساحة، هذا هو الخاطر الأول الذي شعرت به عند مشاهدة فيلم Blue Jasmine للمخرج الكبير والمختلف دائما وودي ألان لكن بلا إجابة هذه المرة عن السؤال ذاته، لماذا أخرج مثل هذا الفيلم وعمره 78 عاما.
يدور الفيلم حول امرأة تغادر حياته الفارهة في نيويورك بعد افلاسها نتيجة القبض على زوجها رجل الأعمال المحتال وانتحاره، وتصل إلى منزل أختها في كاليفورنيا، بكل ما تعانيه من صدمة نفسية جراء التحول الهائل في حياتها وخاصة اكتشاف خيانات زوجها المتعددة لها في نهاية علاقتهما.
وبالتنقل ذهابا وعودة بين ماضي تلك المرأة المريضة نفسيا التي لعبت دورها كيت بلانشيت ببراعة ينسج وودي ألان أخر أفلامه ببراعة الاعتياد، مثلما تقود سيارة ببراعة دوت تفكير في طريقة القيادة لأنك اعتدت عمل هذا طيلة 50 عاما، من قدم الفلاش باك في “Annie Hall” يستطيع تقديم أي فلاش باك في عالم السينما.
ربما يعري الفيلم الحياة ويسخر منها كما اعتاد آلان دائما لكنها يفتقد إلى تلك اللمحة الخاصة التي تركها في كل أفلامه، تلك اللمحة التي يدرك من خلالها المشاهد اسم المخرج دون أن يرى "تتر" الفيلم.
وربما تستحق بلانشيت فعليا الترشح للأوسكار عن دورها الذي لعبته ببراعة، خاصة تلك المشاهد التي كانت تحدث فيها نفسها متخيلة وجود زوجها بجوارها، تعاتبه بدموعها وعتابها، لكنه يبقى أقل بكثير من أدوارا أخرى لها مثل دورها في فيلم The Aviator، ولكنها أيضا تبقى تبقى وحيدة داخل فيلم لا تتعدى شخصياته الرئيسية شخصيتين، هي واختها التي لعبت دورها الممثلة سالي هاوكينز، وبقيت بقية شخصيات الفيلم الفرعية بلا أي بناء أو ملامح مميزة، في سابقة تعد الأولى عند آلان المهتم دائما بملامح وبناء شخصياته الفرعية حتى عندما كان ممثلا يقدم فيلما يدور حوله وحده لا غير.
حتى تلك المفاجأة التي وضعها في نهاية الفيلم في محاولة لجعله أكثر حيوية، والسخرية اللاذعة من الأدمية وقرارتها الغاضبة لم تكن حاضرة بالشكل الكافي حتى تصيب المشاهد بالدهشة والانبهار.
فيلم Blue Jasmine سيبقى في تقديري أحد اسوأ الأفلام التي قدمها العبقري وودي آلان في تاريخه، بلا مبرر واضح، وبلا سبب حقيقي يشرح قراره بالغياب عن فيلمه الجديد، وسأضيف إلى قائمة أسئلتي التي بدون إجابة سؤال عن : لماذا صنع آلان هذا الفيلم؟
"عشق الحياة..يصنع المستحيل"
عبارة تختصر أحداث فيلم "Dallas Buyers Club" الذي يدور حول أفاق ومدمن للمخدرات يعمل كهربائيا ويكتشف اصابته بالإيدز عام 1985، حين انتشر الحديث عن المرض بعد اصابة الممثل الشهير "روك هادسون" به، والذي كان العامة يظنزن أنه لا يصيب سوى الشواذ، وبعد أن يخبره الأطباء أن ما تبقى له حيا هم 30 يوما فقط، يبدأ في رحلته الخاصة بحثا عن الحياة، التي لم يعشها من قبل وسط إدمانه وحياته العابثة اللاهية.
ذلك الرجل الأربعيني الذي يقوم بدوره الفنان "ماثيو ماكونهي" الذي يطلب من ربه علامة على قبول دعائه بإمكانية الحياة في ناد للتعري، ويرشو ممرضا من أجل جلب دواء تجربة لعلاج مرض الإيدز، قبل أن يكتشف طبيبا مفصولا في المكسيك، ويخوض بعدها معركة حول اثبات سمية هذا الدواء الذي وافقت عليه هيئة الأدوية الأمريكية، ويقدم بدلا منه دواء أخرا يحسن من أعارض المرض ويطيل من فترة حضانته وحياة المريض به.
ذلك الرجل عاشق النساء المصاب برهاب المثلية الجنسية الذي يقبل شريكا مثليا فقط من أجل حب الحياة، في سبيل انشاء ناد للمصابين بالمرض، يحصلون على علاجهم مقابل 400 دولار شهريا، والذي تطارده الولاية بشرطتها ورجال ضرائبها ورجال هيئة الأدوية، ويخسر حكما قضائيا يمنعه من تداول تلك الأدوية، لكنه ينتصر ويبقى حيا لمدة 7 سنوات كاملة، ويفتح بذلك بابا لاستخدام الدواء الذي استعمله في مجموعة من الأبحاث حول علاج مرض نقص المناعة المكتسبة "الإيدز".
قصة حقيقة نقلتها السينما عنوانها حب الحياة والتمسك بها، ألهمت صناعها فيلما صعبا للغاية على المشاهد المصري، الذي اعتاد على الحوصل على دوائه من صديقه في العمل أو جاره، أو حتى الطبيب الصيدلي، والذي يتعاطى أدوية غير مرخصة تتداولها إعلانات على الفضائيات التي يشاهدها ليلا ونهارا، لكنها فضحت التجارة بالدواء في أمريكا وقدرة شركات الأدوية الكبرى على تمرير بعض العقارات الضارة دون الإلتفات إلى تلك الدراسات التي تفضحها.
ويقدم "ماثيو ماكونهي" أروع أدواره على الإطلاق خلال هذا الفيلم، خاصة تلك اللحظات الخاصة بأعراض المرض وفقدان سيطرته على نفسه، وكذلك التحول وقبول الأخر الذي رفضه هو نفسه يوما، كما قدم ذل التحول الحاد في شخصية بطل الفيلم اللاهي الذي صار صاحب قضية مشغولا بها ويحيا فقط من أجلها، ذلك الكهربائي الذي قدم بحثا طبيا افاد البشرية،لكن يبقى الأداء الأروع في الفيلم للممثل الشاب "جيرد ليتو" الذي أدى ادوارا صغيرة من قبل في أفلام "Panic Room " و"Fight Club " والذي يلعب دور شاب مثليي الجنس يضع مساحيق التجميل ويرتدي زي نسائي طوال أحداث الفيلم، ويساعد صديقه الذي تعرف عليه في المستشفى على إنشاء نادي العلاج من مرض الإيدز المصاب به هو الأخر، والذي يخوض معه معركته الضارية قبل أن يموت بسبب المرض، وهو الدور الذي ترشح عليه لجائزة "أوسكار" أحسن ممثل مساعد..
فيلم "Dallas Buyers Club" هو أحد تلك الافلام المرشحة لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم، والتي يتمنى المشاهد نهايتها لأنه يشعر بالخوف على مصير أبطالها، وقد تزعجه كثرة المصطلحات الطبية فيه، لكنها تترك ابتسامة عريضة في النهاية لأنها تخبرك أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، وأن في إمكاننا أن نصنع عالمنا ونخوض معاركنا من أجل ذلك، فقط لنحيا سعداء.