30‏/10‏/2012

الجَلٌاش


ينتهي الرجل العجوز من رتق شبكته في صحن ذلك البيت القديم المتهدم المجاور للبحر، تبدو ملامحه جزء لا يتجزء من البيت بتلك التجاعيد التي احتلت الجبهة وحول العينين والفم، وشعره الابيض الخشن الذي تراجع قليلاً ليكشف مقدمة رأسه ببشرته السمراء، وزوج العيون الذي استاعض بتجاعيده عن "الزر" المعتاد في مواجهة الشمس، وتلك الأنف الرومانية التي ورثها عن أجداده، وشارب ضخم خالطه الشيب ليخفي أثار شقاوة زمن مضى، وزوج من الشفاه، قليلاً ما تفارقان صديقتهما السيجارة الـ"كليوباترا" طالما كان صاحبهما على البر.
ارتفع رنين هاتفه المحمول ليضع الشبكة برفق في حرص عاشق يودع حبيبته الفراش، قبل أن يرد على المتحدث، ينهي المكالمة سريعاً بعد أن أخبر ابنه على الطرف الأخر أن "نوة المكنسة" تبدأ غداً، وعليه أن يسرع بإحضار بدل الغوص لبدأ "التجليش".
                                                                  ********
يعرف عبده أن له أصولاً مختلطة، ولكنه يثق في اصل والدته النوبي الواضح على بشرته، ومهنة صناعة "الجرجار" - الزي النوبي - التي انتهت بوفاتها ورحيلها منذ 10 أعوام، وأن والده ذو الاصل الروماني النوبي، قد امتهن الصيد والتجليش منذ نعومة أظافره، وأنه لسبب لا يعرفه يعشق التجليش ولا يحب الصيد.
قطع والده حبل افكاره بعد أن دخل غرفته مرتديا النصف العلوي من بدلة الغطس، مطالباً إياه بالإسراع، قبل أن يصل غضب النوة إلى منتهاه، ويعجزون عن مقاومتها.
يغادران سوياً حتى شاطيء المنتزه، ارقي ما يعرفون من شواطيء الإسكندرية، يرتديان النصف الأسفل، بينما يحاول البحر غبعادهما عن أحشائه بكل ما تملك النوة من قوة غاشمة.
يبتسم الاب في سخرية واضحة ويقول - حتى البحر ياولدي بيسمع كلام النسوان
يضحك عبده على تعليق والده، الذي يشبه النوة بالمرأة، ويتذكر حبيبته الغائبة في الجنوب، والتي تنتظر إكتمال المهر لاتمام الزواج.
يقتربان من الماء بعد أن يثبت كلاً منهما نفسه بحبل على الشاطيء، ويرتديان الزعانف بعد أن قاما بقص الجزء اللين فيها، ليصبح الجزء الصلب في مقدمتها، ويحمل هو عن والده الغربال، ويغيبان داخل الماء.
                                                      ********
يمر الوقت طويلاً، يصفعهما الموج كما يحلو له حتى يصلا لمكان ما، بحكم خبرة الوالد، الذي يبحث في الشواطئ عن الأماكن التي تكون رمالها هشة، ويعرفها من لون الماء، يغطسان ليبدأ عبده بإشارة من والده في صنع حفرة ليصلوا من خلالها إلى الأرض الصلبة؛ ليبحثوا بها عن مفقودات المصطافين من مشغولات ذهبية أو فضية أو غيرها، والمدفونة تحت الرمال.
تزمجر السماء ويتابع رعدها برقها، ويواصل البحر غضبه بلا حدود، يعلم الرجلان أنه لا رزق في الصيد خلال النوة، وأن رزقهما سيصل إلى الغربال.
يثني الاب ركبيته ليتمكن من غربلة الرمال بثبات مضاد لحركة البحر، يتخيله الناظر من بعيد أحد التماثيل الرومانية الغارقة في  باطن البحر، يهتز الغربال وتنسال الرمال وتبقى قدميه ثابتة لا تتحرك، يعاود الشاب ملأ غربال والده، بينما يعبر فوقهما شابان اخران، يحملان جهازا إلكترونياً يصدر صفارة متقطعة لا يسمعانها بحكم الماء.
يشير شاب منهما إلى مكان بالقرب من الرجلين الغائصين في المياه، فيقفز الأخر متجاهلاً وجودهما، يسرع عبده محاولاً منعه من منطقة نفوذهما تحت الماء.
يشتبك الإثنان في صراع بالحركة البطيئة بفعل الغوص، ينحني الاب في هدوء وهو يجمع الرمال من اسفل قدميهما ليقوم بغربلتها، وهو يقول في سره، بينما لمعة خاتم ذهبي تشرق في عتمة البحر داخل الغربال
- الله يلعن دين الأمريكان والتكنولوجيا بتاعتهم.

                                           *********
ملحوظة : الجلاش مهنة سكندرية قاربت على الإنقراض، يقوم صاحبها بغربلة الرمال داخل البحر للعثور على ما فقده المصطافين، من ذهب والماظ، وعادة ما يكون صياداً في الاساس، يوعمل بتلك المهنة خلال النوات التي لا يتمكن فيها من الصيد.


هناك 4 تعليقات:

radwaa يقول...

بتجيب الافكار دى منين

أسامة الشاذلي يقول...

من الدنيا اللي حوالينا

غير معرف يقول...

اولا أهنئك على وصفك الدقيق لملامح الشخصيات ليساعدنا ان نتخيل الاشخاص كما تراها او نراها بعينيك وثانيا الرومنسيه الشديده بينه وبين معشوقته وهى الشبكه,,,,و التعلق المهنى واحترام المهنى المفقود و طبعاأكتسبنا بمعلومه لمهنى لم نسمع بها ,,,,طبعا الاسم رابطه فى الاول بالجلاش ابو لحمه بعد الكوارع والبسبوسه ,,,,,,فعلا فى انتظار بفارغ الصبر لجزء تانى

بنت القمر يقول...

عظيم.. رغم اني اسكندرانية..ما سمعتش عن الجلاشين قبل كده.:)