لم يكن عامل «الأفيش» الذي عمل على رفع أفيش فيلم «عرق البلح» منتصف ليلة الثلاثاء 22 يونيو 1999، استعدادا لعرضه الأول في اليوم التالي في سينما "أوديون"، يعلم أنه بعد أسبوع واحد سيزيله من على السينما.
كذلك كان حضور صاحبه «رضوان الكاشف» لتلك الدنيا خاطفا، ابن موت كما يحلو للمصريين دائما أن يصفوا هؤلاء العباقرة الذين يخطفهم الموت مبكرا.
كان الطالب السوهاجي الصعيدي الذي ولد في حي السيدة زينب الشعبي عاشقا للشعر، حيث قدم عدة أبحاثا ودراسات في الفلسفة الصوفية عند «ابن عربي» و«ابن الفارض» و«الفارابي»، ثم تخرج ليصدر كتابين عن «عبدالله النديم» كرمز للثورة، وتجديد الفكر عند «زكي نجيب محمود».
عاشق للشعر الصوفي يكتب عن الثورة وتجديد الفكر، هذا هو تماما صانع الأفلام رضوان الكاشف، الذي كان فيلمه الأول «ليه يا بنفسج» أغنية شعرية رقيقة، ثم تبعه بقصيدته الملحمية «عرق البلح» ثائرا على شكل السينما ومجددا في طريقة الفكر فيها.
قدم «الكاشف» قرية مصرية تمردت على الواقع وانفصلت عن الزمان فاحتفظت بشكلها البكر، ومن خلال الهجرة التي يضطر إليها الرجال في هذا العصر، ويمزج «الكاشف» الزمنين، ثم يضيف إليهما زمنا آخر بأسطورة النخلة العالية التي تطرح بلحا أبيض.
يقدم «الكاشف» فيلمه دون زمن محدد، ويستعرض خلاله في صورة شديدة الثراء والعمق العادات الحقيقية للصعيد المصري، فيقدم المرأة ك«حارسة الثقافة وعنصر مقاومة التغير الذي يتجه إليه المجتمع»، لكنه لا يقدم أبطاله كملائكة بل يحملون خطاياهم مثل البشر العاديين.
*****
لم ينجح المعتقل عام 81 في أن يترك أثره على روح حالم مثل رضوان الكاشف، فقط خرج لينضم إلى معهد السينما ليتخرج متصدراً دفعته، وتمنحه وزارة الثقافة جائزة العمل الأول عام 1988عن فيلم «الجنوبية» القصير مشروع تخرجه، الذي يدور حول فتاة حرة ترفض تقاليد المجتمع الذي أجبرها على الزواج ممن تكره ولكنها تمارس الحب المحرم مع مَن تحب، فيكون مصيرها القتل.
ومن أجل أن يقدم حلمه «عرق البلح» المكتوب قبل «ليه يا بنفسج»، اضطر إلى تقديم حلمه الصغير عبر بوابة الواقعية السحرية للفيلم المأخوذ عن رواية «باهيا» للكاتب البرازيلي «جورج آمادو» .
استعرض الفنان قاع المجتمع المصري بصدق وواقعية ليتم اعتباره أحد رواد الجيل الثاني في السينما الواقعية المصرية، لتنهال عليه الجوائز، ويبقى فيلم «عرق البلح» مجرد سيناريو يصيب من يقرأه بالانبهار مع ملحوظة واحدة متكررة مهما تغير الشخص
وبإصرار الصعيدي الثائر بداخله يخرج «عرق البلح» للنور دون أي تغيير في السيناريو، مع ميزانية محدودة، ويناقش الكاشف قضية الهجرة وعادات المجتمع وآفاته وكيف يكون الحل دائما «حكاية ولازم تخلص».
وهو نفسه ما فعله المنتجون مع الفيلم الذي استمر عرضه في القاهرة لمدة اسبوع وفي باريس لمدة 6 أشهر.
كشف الثائر عورات المجتمع وشركات الإنتاج، فكان لابد أن «تخلص» الحكاية.
******
قد يكون رضوان الكاشف أقسم خلف الكاميرا عند أول فيلم صوّره في معهد السينما أنه لن يعمل إلا ما يحب، وهو ما فعله طيلة حياته القصيرة، والتي بدى فيها كصرخة في عالم السينما، ومحاولة لنفخ الروح في شكل جديد للصورة السينمائية المصرية من خلال مفردات شديدة المحلية.
وفي فيلمه الأخير «الساحر» كان وكأنه يعرف أنه يودع الجمهور، فأراد أن يكمل رسالته الفنية من خلال نظريته الأهم عن صناعة البهجة من قلب الحزن، ربما خرج مرتبكاً بعض الشيء ولا يشبه قصائد الكاشف السينمائية ولكنه أودع فيه أنفاسه الأخيرة.
رحل رضوان الكاشف في الخامس من يونيو 2002، بعدما قدم 3 أفلام طويلة وفيلما قصيرا و3 افلام تسجيلية في 17 عاما، قدم فيها رؤية إخراجية جديدة منذ أول أفلامه «الجنوبية» للقضاء على الانفصال بين المثقف وواقعه الحقيقي، من خلال حركة الكاميرا «المتأملة» التي تهتم اهتماما مدهشا بعرض التفاصيل ليدفع المشاهد إلى التخلي عن مجرد الفرجة والمشاركة بروحه فيما يشاهد بدرجات مختلفة من خلال اقتراب الكاميرا أو ابتعادها.
ومن خلال فيلميه «الجنوبية» و«عرق البلح» كانت عودة المثقف إلى مسقط رأسه لكي يبدأ حل الأزمة بالجدل والنقاش باعتباره الأقدر عليه.
عليه أن يعود ليفهم ويتعلم ويصبح بعدها ممتلكا لأدوات التغيير المناسبة، بعد أن يتخلص من غروره وتعاليه وإحساسه بأنه الأقدر والأكثر فهما.
وكانت النهاية تشبه نهاية بطله الذي كشف عجز الرجال وقلة حيلتهم، فكان لابد أن يسقطوا عليه عجزهم، ويكبلوه إنتاجيا وتجاريا، وقلب الحالم لا يحتمل، وكما صعد «أحمد مصطفى» بطل «عرق البلح» النخلة البيضاء ولم يعد، غادر رضوان الكاشف هذه الدنيا.
هناك تعليق واحد:
الله يرحمه ❤️
إرسال تعليق